أظهر تقرير حديث نشوء أوضاع جديدة في منطقة الشرق الأوسط مختلفة عن تلك الأوضاع التي سادت في أوقات سابقة ومثّلت أرضية ملائمة لإيران لمدّ نفوذها وتوسيعه ليشمل عددا من بلدان المنطقة من العراق إلى اليمن مرورا بسوريا ولبنان، مبيّنا تراجع نقاط القوة التي تتيح لطهران الحفاظ على ذلك النفوذ وتدعيمه، في ظلّ مثابرة الولايات المتحدة على تدارك أخطائها التي نفذت إيران من خلالها في أوقات سابقة، وذلك في نطاق معادلة جديدة مؤداها “أخطاء أميركية أقل، نفوذ إيراني أضيق نطاقا”.
وذكر التقرير الذي نشره معهد لوي الذي يتّخذ من أستراليا مقرّا له في نشرية “المترجِم” أنّ إيران استفادت من أخطاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكن الأخطاء الإيرانية في ما يتعلق بحروب الوكالة وتشكيل الواجهات العدوانية المستمرة، لها أيضا تكاليفها الباهظة.
ومن أبرز التغيرات في ملامح المشهد الجيوسياسي باتّجاه لا يخدم المصلحة الإيرانية، توقيع اتفاق على تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل وآخر مماثل بين إسرائيل والبحرين بدعم كبير من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وصف الاتفاقيتين بأنّهما إيذان بانبثاق فجر شرق أوسطي جديد.
لكن الرد على الاتفاقيتين من قبل طهران، يقول تقرير معهد لوي، لم يكن على قدر من الفاعلية. فبعد أنّ ظلّ الإيرانيون يتظاهرون لفترة طويلة بأنهم “أبطال” القضية الفلسطينية، لم تملك قيادات النظام الإيراني وشخصياته البارزة غير التهكم على الخطوة الإماراتية والبحرينية واستدعاء مصطلحات من قاموس الشتم والتخوين لتوصيفها، فيما تسود قناعة في إيران وخارجها بأن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تشكّل الشغل الشاغل لطهران في الوقت الحالي وما يتميّز به من مصاعب وأزمات شديدة التعقيد.
ويؤشّر اتفاق الإمارات والبحرين مع إسرائيل والذي يمكن أن يكون بداية تطبيع خليجي إسرائيلي أوسع نطاقا إلى نشوء كتلة إقليمية معادية لإيران الأمر الذي يدق أجراس الإنذار في طهران.
ومنذ الإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين عام 2003 وسطوة اللاعبين المحليين الموالين لإيران في العراق تتزايد. لكن اللعبة بدأت تتغيّر مؤخّرا وبدأ الموقف الإيراني يضعف وخطوات مدّ النفوذ في البلدان العربية والحفاظ عليه تتعثّر.
ولم يكن ذلك التغير متوقّعا قبل بضع سنوات عندما كان يُنظر إلى إيران على أنها في صعود، بعد أن أعادت تشكيل الديناميات الجيوسياسية الإقليمية لصالحها، حتّى أنّ المحللين وصناع السياسة في الولايات المتحدة بدأوا يتحدّثون عن عدم القدرة على احتواء إيران.
واشنطن تتدارك الأخطاء التي استفادت منها إيران، في نطاق معادلة مؤداها “أخطاء أقل، نفوذ إيراني أضيق”
فقد كانت طهران قادرة على الاستفادة من الفوضى التي انتشرت في أعقاب الإطاحة بصدام حسين، وربما تصور الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أن يكون عراق ما بعد صدام بمثابة جسر لنفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولكن من الواضح أن طهران تفوقت على واشنطن من خلال الاستفادة من صلاتها الدينية والسياسية مع الشيعة العراقيين والتي سرعان ما ترجمتها إلى نفوذ في العراق أكثر مما كانت أميركا تتوقّعه. ثم لم تتوان إيران لاحقا في دفع نفوذها إلى ما وراء العراق، وتحديدا إلى اليمن وسوريا فضلا عن لبنان حيث واصلت طهران بجرأة رعاية وكلائها وعلى رأسهم حزب الله، وعززت العلاقات السياسية مع بيروت ودمشق وسعت بنشاط إلى تجنيد آخرين في ما يسمى بـ”محور المقاومة”. ونتيجة لذلك، كانت هناك مخاوف في بعض الدوائر السياسية من ظهور هلال شيعي يعطل الديناميات الإقليمية الراسخة، ويعمل ضد المصالح الغربية ويرسّخ مكانة إيران باعتبارها اللاعب الجيوسياسي المهيمن.
وفي لحظة ما، بدا أن نفوذ إيران في المنطقة تحوّل إلى ما يشبه “القدر المحتوم” والأمر المسلّم به خصوصا عندما تمّ سنة 2015 توقيع الاتفاق النووي الذي أوحى بأن علاقات إيران دائمة التوتّر مع الغرب، ستصبح أكثر ودية.
وسرعان ما ثبت زيف هذه الآمال بظهور قاسم سليماني القيادي الكبير في الحرس الثوري بصورته القاسية كواجهة للسياسة الخارجية الإيرانية، مرسّخا بذلك دور بلاده كقوّة معادية للغرب وداعمة للميليشيات بدلا من أن يكون هدفها عقد الصفقات السياسية والتجارية المربحة، مثلما حاولت دبلوماسية الرئيس حسن روحاني تسويقه دون جدوى، حيث لم تكن هي صاحبة القرار الفعلي، بل الجهات المتشدّدة التي يعتبر الحرس الثوري واجهتها الأكثر بروزا.
وكان أن جنت إيران النتائج التي يتوقّع أن تحصل عليها أي دولة تقدم واجهة عدوانية باستمرار للمجتمع الدولي، حيث لا يمكن لهذا النوع من الدول أن تتوقع الفوز على المدى الطويل. وهذا هو شأن إيران في الوقت الحالي حيث توجد مؤشرات كثيرة على على أن الأوراق الرابحة تتساقط من يدها تباعا.
ويواصل الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو اتباع موقف صارم ضد إيران متّخذا من العقوبات الاقتصادية الأشدّ من نوعها سلاحا لمحاصرة النفوذ الإيراني. وفي العام الماضي صنف ترامب الحرس الثوري ككيان إرهابي، وفي يناير من العام الحالي أمر بشن غارة جوية أدت إلى مقتل سليماني في العراق في حدث أعاد خلط الأوراق وبعثر الحسابات الإقليمية إلى حدّ بعيد.
وبينما يواجه حزب الله اللبناني الذي يعتبر أقوى ذراع لإيران في المنطقة صعوبات كبيرة خصوصا بعد الانفجار الهائل الذي ضرب بيروت، تلوح تغييرات غير مرحب بها من قبل إيران في علاقة العراق بالولايات المتحدة في ظل وجود رئيس وزراء غير محسوب ضمن معسكر الموالاة لطهران.
ومع سعي الكاظمي على ما يبدو لفك ارتباط العراق بإيران، تتطلع الأخيرة إلى سوريا باعتبارها الساحة المفتوحة لنفوذها، لكنها تعلم أن قدرها أن تلعب هناك دورا ثانويا إلى جانب الدور الرئيسي الذي تلعبه روسيا.
صحيفة العرب