حاولت الولايات المتحدة، بضغط من «إسرائيل» منذ سنة 2010 ترسيم الحدود بين المياه الإقليمية اللبنانية والمياه الإقليمية الفلسطينية، الواقعة تحت احتلال العدو. فردريك هوف أحد كبار دبلوماسييها، عرض على الطرفين تقسيم المنطقة المتنازع عليها البالغة مساحتها 860 كيلومترا مربعاً، بتخصيص لبنان بـ500 كيلومتر مربع منها، على أن يكون الباقي لـِ»اسرائيل» لبنان رفض العرض الأمريكي، لأن المنطقة المتنازع عليها تقع برمتها ضمن مياهه الإقليمية.
بعد عشر سنوات من الاتصالات والمساعي والضغوط والاعتداءات الإسرائيلية في البر والبحر، أمكن عقد اجتماع الأربعاء الماضي بين الطرفين، لترسيم الحدود برعاية الأمم المتحدة، وبوساطة الولايات المتحدة. ما كان الاجتماع ليعقد لولا نجاح واشنطن في إقناع تل أبيب بتقديم تنازلات تتعلق بأسس للمفاوضات، يصرّ عليها لبنان، وتكفل حصرها بترسيم الحدود، ولا تتعداه إلى أيّ بحث في تطبيع العلاقات أو مصالحة العدو.
يبدو أن المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين ستتواصل، ليس لحاجة دونالد ترامب إلى تسجيل انتصار يوظفه في حملته الانتخابية فحسب، بل لحاجة «إسرائيل» أيضاً إلى إنهاء النزاع مع لبنان، ومع المقاومة خاصةً، التي تهدد منشآتها النفطية البحرية وخططها لتوسيع التنقيب عن مكامن الغاز لتسويقه في أوروبا، عبر أنبوب بحري سيجري تمديده بموجب اتفاق مع قبرص واليونان وإيطاليا، إذ يبدو ترسيم الحدود بين لبنان و»إسرائيل» محتملاً، فإن ترسيم الحدود في لبنان بين مصالح أمراء الطوائف وصراعاتهم اللامتناهية، يبدو مستحيلاً. فأزمة لبنان المزمنة تفجرت قبل سنة بانتفاضة بانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما أدى إلى استقالة حكومة سعد الحريري.. ثم تفاقمت الأزمة وتدحرجت إلى انهيار مالي واقتصادي في مطالع العام الجاري.
حاول أركان المنظومة الحاكمة، تدارك المزيد من المفاعيل المؤذية، بتأليف حكومة من الاختصاصيين برئاسة حسان دياب، لكن الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت جاء ليزيد الأزمة تعقيداً وحماوة، لماذا؟ لأن كلاًّ من أمراء الطوائف المتصارعين على المصالح والمكاسب والنفوذ، حاول أن يلقي مسؤولية الانفجار على الآخر، في وقت تعاني البلاد الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتواجه تحديات واستحقاقات خطيرة وماثلة. حدّةُ الصراعات وتداعياتها الخطيرة على مصالح فرنسا في الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط، وعلى مستقبل الثقافة الفرنكوفونية في لبنان، حملت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على زيارته مرتين في أقل من شهر لمحاولة التوفيق بين أمراء طوائفه المتصارعين. تدخلُ ماكرون أسفر عن تبنٍ ظاهري من قبل رؤساء الكتل البرلمانية لمذكرته الإصلاحية، المطلوب تنفيذها بواسطة حكومة اختصاصيين غير حزبيين. على هذا الأساس جرى التوافق، ظاهرياً مرة أخرى، على تكليف السفير مصطفى أديب تشكيل حكومة جديدة. أديب حاول بصمت ومثابرة تأليف «حكومة مهمة» للإصلاح والمحاسبة، لكن خلافات أمراء الطوائف حالت دون ذلك.
يعاني لبنان الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويواجه تحديات واستحقاقات خطيرة وماثلة
منذ اعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، والصراعات تحتدم بلا هوادة بين أمراء الطوائف، ولاسيما بعدما أعلن سعد الحريري نفسه مرشحاً طبيعياً لتأليف حكومةٍ، وفق الأسس نفسها (أي الفرنسية) التي كان اعتمدها أديب قبيل تكليفه رسمياً بتأليف الحكومة. الرئيس ميشال عون استبق احتمال نجاح الحريري بتأليف حكومة جديدة، بتأجيل الاستشارات النيابية لمدة ثمانية ايام لحمله وحلفائه على مراعاة صهره، جبران باسيل، رئيس أكبر كتلة برلمانية (ومسيحية) تعارض تكليفه تشكيل الحكومة أو الاشتراك فيها. لا بدّ من التوقف ملّياً أمام معارضة أكبر كتلتين برلمانيتين مسيحيتين (برئاسة كلٍّ من جبران باسيل وسمير جعجع) عن الاشتراك في حكومة يرأسها الحريري، ذلك أن تداعيات انتفاضة 17 تشرين من جهة، وتفاقم مفاعيل الانهيار المالي والاقتصادي، ولاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي من جهة أخرى، بالإضافة إلى هجمة التطبيع الأمريكية في المنطقة، وما رافقها من صراعات بين تركيا من جهة ومصر واليونان و»إسرائيل» من جهة أخرى، على النفط والغاز في الحوض الشرقي للمتوسط، كل ذلك أدى إلى تأجيج التوترات والصراعات في مجمل منطقة غرب آسيا، ولاسيما في لبنان.
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، ترسيم حدود مقبولة بين مصالح أمراء الطوائف وصراعاتهم في لبنان. إنها صراعات «تاريخية» قديمة ومتجددة، بفعل تدخلات دول كبرى وأخرى إقليمية، تجد دائماً بين معظم هؤلاء الأمراء مَن يستدعيها ويتقبّلها وينخرط فيها. إلى ذلك، يمكن رصد هجومٍ صهيوأمريكي، يستهدف منطقة غرب آسيا برمتها من شواطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً. هذا الهجوم المتصاعد له دوافع متعددة أبرزها ثلاثة:
أولاها، اضطرار الولايات المتحدة إلى الانسحاب تدريجياً من بلدان غرب آسيا تحت وطأة مقاومات شعبية من جهة، ومن جهة أخرى بفعل عوامل سياسية واقتصادية داخلية في أمريكا، تدفعها إلى وضع ترتيبات سياسية وعسكرية لحماية مصالحها ومصالح حلفائها الإقليميين قبل الانسحاب من المنطقة.
ثانيها، التقاء مصالح أمريكا مع مصالح «إسرائيل» على تفكيك دول محيطها العربي، سوريا ولبنان والعراق والأردن، إلى دويلات أو جمهوريات موز قميئة، على اساس قَبَلي أو طائفي أو إثني، لتبقى عاجزة عن التوحد وعن تشكيل تهديد أمني للكيان الصهيوني، أو لمصالح دول الغرب الأطلسي في المنطقة.
ثالثها، حماية مصالح أمريكا وفرنسا وإسرائيل الغازية والنفطية في شرق المتوسط من شواطئ ليبيا إلى شواطئ لبنان وسوريا، ومن شرق الفرات في سوريا إلى منطقتي الأهوار والبصرة في جنوب العراق. لهذا الغرض، نشرت أمريكا قوات لها في منطقة التنف جنوب شرق سوريا، وفي منطقة شرق الفرات لقطع معابر الانتقال والنقل بين سوريا والعراق. كما قامت أمريكا بتشجيع جماعة من الكرد السوريين (منظمة «قسد» تحديداً) على إقامة منطقة حكم ذاتي في شرق الفرات، معادية للحكومة المركزية في دمشق، كما على المباشرة في استثمار آبار النفط في المنطقة بالتعاون مع شركات امريكية.
هذه الواقعات والتطورات لم تغب عن أذهان الأحزاب والتنظيمات السياسية الانعزالية اللبنانية، التي وجدت فيها ما يساعدها على تحقيق رؤيتها لمستقبل لبنان في غمرة الهجوم الصهيوأمريكي الذي يستهدف المنطقة برمتها. فليس غريباً، والحالة هذه، أن تلجأ هذه التنظيمات الانعزالية إلى تأجيج الصراعات الطائفية والسياسية الناشطة في هذه الآونة، بقصد الإفادة من تداعيات الصراعات الإقليمية عموماً، وتداعيات الهجوم الصهيوامريكي على سوريا خصوصاً، لخدمة أغراضها السياسية في الحاضر والمستقبل. باختصار، ترسيم الحدود بين لبنان و»اسرائيل» أمر محتمل في المستقبل المنظور، لكن لا سبيل، على ما يبدو، إلى ترسيم الحدود بين أمراء الطوائف المتصارعين بضراوة على الصدارة والمصالح والنفوذ.
عصام نعمان
القدس العربي