في 29 تشرين الأول/أكتوبر، قام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بزيارة وجيزة إلى جاكرتا أجرى خلالها محادثات مع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو – المعروف شعبياً باسم جوكوي – ووزيرة الخارجية رتنو مرصودي. ولا شك في أن المسألة التي تصدرت جدول أعمال بومبيو هي جهود الولايات المتحدة لرصّ صفوف الحلفاء الآسيويين حول مواجهة الحزم الصيني المتزايد في المنطقة وخارجها. ولكن جاكرتا تتمتع بأهمية من نوعٍ آخر في أولويات السياسة الخارجية لإدارة ترامب، وهي أولوية اكتسبت أهمية متزايدة في الفترة التي سبقت الانتخابات الأمريكية: التطبيع مع إسرائيل. فإندونيسيا هي واحدة من الدول الثلاثين في جميع أنحاء العالم التي لا تعترف بدولة إسرائيل، وواحدة من ثلاث دول في جنوب شرق آسيا. ولكن بخلاف ماليزيا، التي تبنّى قادتها معاداة السامية الخبيثة، وكذلك بروناي الصغيرة، لأندونيسيا تاريخ من البوادر الإيجابية (وإن كانت غير متسقة) تجاه إسرائيل، مما يزيد الآمال في إمكانية [نجاح] الاتجاه نحو التطبيع حتى لو لم يكن وشيكاً.
انفتاح تدريجي
إن المشاعر الإندونيسية تجاه إسرائيل بعيدة كل البعد عن كونها دافئة، فوفقاً لاستطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عام 2017، يرى 9 في المائة فقط من السكان التأثير الخارجي للقدس بشكل إيجابي – وهي نسبة أقل من نظيرتيها بين سكان تركيا أو باكستان. ويعود هذا الفتور جزئياً إلى تاريخ إندونيسيا الحديث. فقد تبنّى سوكارنو، أول رئيس للبلاد، سياسةً خارجية مناهضة بشدة للاستعمار، وانضم إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورؤساء آخرين لتأسيس “حركة عدم الانحياز” في عام 1961، ومنع إسرائيل من المشاركة في دورة الألعاب الآسيوية عام 1962 بناءً على طلب من الحلفاء العرب. ثم جاء خليفته سوهارتو فغيّر مسار السياسة الخارجية الإندونيسية، وأصبحت البلاد منذ ذلك الحين أكثر ديمقراطية وشريكاً أوثق مع الولايات المتحدة والغرب الأوسع نطاقاً. ومع ذلك، استمر اغترابها عن إسرائيل.
ولكن في المقابل، قامت إندونيسيا خلال العقود الأخيرة بعدة مبادرات أعطت إسرائيل الأمل في إمكانية التقارب بينهما. وتم تحقيق أول تقدّم كبير في هذا المجال بعد توقيع “اتفاقيات أوسلو” عام 1993 حين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بزيارة سوهارتو في منزله في جاكرتا. وفي العام التالي، سافر عبد الرحمن وحيد، رئيس الجمعية الإسلامية المعتدلة، “نهضة العلماء”، ورئيس إندونيسيا لاحقاً، إلى القدس ليشهد توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن. وزار إسرائيل ثانية في عام 1997، ودعا إلى التقارب بين العرب واليهود حتى وفاته.
وفي الآونة الأخيرة، تبنّى الرئيس سوسيلو بامبانغ يودهويونو حل الدولتين للمرة الأولى عام 2012، مما أثار احتمال تَمَكُّن جاكرتا من تطبيع [العلاقات] في سياق السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وفي وقت لاحق، تجاوز يوسف كالا الحدود بلطف بدعوته إلى التعامل مع إسرائيل أثناء شغله منصب نائب الرئيس. وفي عام 2014، أعلن أن إندونيسيا “لا يمكن أن تكون وسيطاً إذا كنا لا نعرف إسرائيل … يجب أن نكون قريبين من كل من إسرائيل وفلسطين”. وفي عام 2018، تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي العام نفسه، سافر رئيس جمعية “نهضة العلماء” يحيى ستاقوف – الذي استضاف الوزير بومبيو هذا الأسبوع – إلى إسرائيل واجتمع أيضاً بنتنياهو.
وعلى مر السنين، أصبحت التبادلات السياسية والحوارات بين الأديان – غالباً بمشاركة الجالية اليهودية الأسترالية – اعتيادية نسبياً وتلقى تغطية علنية في الصحافة الأندونيسية. ومن حين لآخر، تكون هذه المبادرات أكثر رسمية: ففي عام 2008، وقّعت منظمة “نجمة داود الحمراء” الطبية الإسرائيلية ونظيرتها الإندونيسية اتفاقية تعاون في تل أبيب شهدها نائب رئيس منظمة “المحمدية”، ثاني أكبر منظمة إسلامية في إندونيسيا.
ويتمتع البلدان أيضاً بعلاقة اقتصادية محدودة، بصرف النظر عن افتقارهما للعلاقات الدبلوماسية. وفي عام 2018، بلغ حجم التجارة الثنائية بينهما حوالي 100 مليون دولار على الرغم من القيود الإندونيسية الكبيرة على التجارة المباشرة مع إسرائيل. وبالمثل، يقوم عدد متزايد من السياح الإسرائيليين بزيارة إندونيسيا سنوياً على الرغم من القيود المفروضة على التأشيرات، والتي يجب عليهم الحصول عليها عن طريق سنغافورة. وبالمثل، يزور عشرات الآلاف من المسلمين والمسيحيين الإندونيسيين الأماكن المقدسة في إسرائيل كل عام، وقد تزداد هذه الأعداد مع ظهور روابط جوية أقصر وأرخص عبر دولة الإمارات. ووفقاً لبعض التقارير، انخرطت الحكومتان في تعاون أمني غير علني على مر السنين، وغالباً ما يُنظر إلى السفير الإسرائيلي في سنغافورة على أنه مبعوث غير رسمي إلى جاكرتا.
ومع ذلك، فشلت جميع هذه الإشارات الإيجابية في التمخض عن حركة متسقة نحو التطبيع. وفي عام 2012، أفادت بعض التقارير أن إسرائيل وافقت على افتتاح قنصلية إندونيسية في رام الله، على أساس أن الدبلوماسي الذي يترأسها سيكون أيضاً ممثلاً فعلياً في إسرائيل. ومع ذلك، يبدو أن الخطة تعثرت عندما أصر وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان على مبدأ المعاملة بالمثل. ونتيجة لذلك، مُنع وزير الخارجية الإندونيسي مارتي ناتاليغاوا من الحصول على تأشيرة لزيارة الضفة الغربية في عام 2012 لأنه لن يقوم بزيارة موازية إلى القدس. وتم إعطاء نفس السبب في آذار/مارس الماضي عندما رفضت إسرائيل منح وزيرة الخارجية الإندونيسية مرسودي تأشيرة لزيارة رام الله، حيث كانت تأمل في افتتاح قنصلية فخرية.
وتبعت ذلك حادثة أخرى ذات دلالة في عام 2016، عندما صرّح نتنياهو أمام فريق زائر من الصحفيين الأندونيسيين أن “الأسباب المانعة [للتقارب] لم تعد قائمة” وحثّ جاكرتا على النظر في إقامة علاقات ثنائية مفتوحة بين البلدين. ورداً على ذلك، رفض متحدث باسم وزارة الخارجية الأندونيسية طلب نتنياهو، وكرّر دعم بلاده لإقامة دولة فلسطينية، ووبّخ الصحفيين لزيارتهم إسرائيل في المقام الأول.
ردود الفعل الأندونيسية تجاه الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي
على الرغم من تردّد جاكرتا في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كان ردّها على اتفاقيتَي التطبيع الأخيرتين مع الإمارات والبحرين صامتاً، مما يتناقض مع المواقف التي عبّرت عنها بعض الشخصيات الإقليمية البارزة الأخرى – على غرار رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد الذي أعلن أن هاتين الاتفاقيتين ستثيران الخلاف بين الدول الإسلامية. ويعود التحفّظ الإندونيسي، جزئياً على الأرجح، إلى علاقة جاكرتا وجوكوي الوثيقة بدولة الإمارات، التي يترأس زعيمها الفعلي، ولي العهد محمد بن زايد، اللجنة التوجيهية لبناء عاصمة إندونيسيا الجديدة المخطط لها في “شرق كاليمانتان”. كما لاحظت جاكرتا بلا شك الاستجابة الكبيرة غير العلنية بل الإيجابية التي قوبلت بها الاتفاقيتان [مع الإمارات والبحرين] في المملكة العربية السعودية، والتي يمكن القول إنها تتمتع بنفوذ أكبر في إندونيسيا من أي دولة عربية أخرى.
ومع ذلك، من المرجح أن تمنع الاعتبارات السياسية المحلية دون لحاق إندونيسيا بمسار التطبيع الإماراتي والبحريني والسوداني في المستقبل القريب. فقد انتقدت بعض الجماعات الإسلامية المحلية جوكوي لكونه غير محافظ بما فيه الكفاية، وزاد حذره فيما يتعلق باليمين الديني مع إدانة عمدة جاكرتا، المدعو باسوكي تجاهاجا بورناما – وهو مسيحي من أصل صيني وأحد حلفائه السياسيين – بتهمة التجديف في عام 2017. وعندما كان جوكوي يخوض معركة انتخابية لإعادة انتخابه في عام 2019، كان بحاجة إلى نائب رئيس جديد يحل محل جوسوف كالا الذي وصل الحد الزمني للخدمة في هذا المنصب. فاختار لهذه المهمة رجلَ دين مسلماً محافظاً هو رئيس المجلس الأعلى السابق لجمعية “نهضة العلماء” معروف أمين الذي شهد ضد بورناما، على الرغم من أنه أعرب لاحقاً عن أسفه للقيام بذلك.
وفي النهاية، قد يعتبر جوكوي وغيره من السياسيين الإندونيسيين أن تكلفة كتم المشاعر الشعبية المعادية لإسرائيل باهظة – وللمفارقة، ربما تكون أعلى مما هي عليه في العديد من الدول العربية لأن إندونيسيا دولة ديمقراطية. وفي الوقت نفسه، تَعتبر جاكرتا على الأرجح أن التكلفة الجيوسياسية للمعارضة العلنية لإسرائيل متدنية نسبياً، خاصةً لأنها تستطيع أن تجني بعض فوائد التعاون مع حكومة القدس من دون الاعتراف رسمياً بإسرائيل. وأدت هذه العوامل إلى بروز ظاهرة غير متوقعة، وهي: أن إندونيسيا ودول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط غالباً ما تكون أكثر تشدداً في معارضتها للتطبيع من خصوم إسرائيل العرب السابقين.
نظرة إلى المستقبل
[ربما] لم يكن التطبيع على رأس جدول أعمال بومبيو في جاكرتا، وكان لا ينبغي أن يكون كذلك. فوفقاً لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ ديفيد ستيلويل، ترى الولايات المتحدة في إندونيسيا “ركيزة من ركائز الحرية والانفتاح في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”. وهذا ما يجعلها عنصراً جوهرياً لما تعتبره إدارة ترامب أولويتها الأولى في السياسة الخارجية، وهي التصدي للحزم الصيني المتزايد.
ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن من شأن عملية التطبيع أن تقوّي إندونيسيا. فمن الناحية الاقتصادية، تُعد تجارة الدولة مع إسرائيل أصغر حجماً بعدة مرات من تجارة تايلاند وفيتنام، على الرغم من حقيقة أن “الناتج المحلي الإجمالي” لإندونيسيا يبلغ ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مثيله في الدولتين المجاورتين لأندونيسيا. وفي المجال الأمني، تقدم إسرائيل الخبرة ليس فقط ضد التهديدات القائمة منذ فترة طويلة مثل الإرهاب، ولكن أيضاً في المناطق التي تواجه فيها إندونيسيا تهديدات ناشئة تتراوح من الهجمات الإلكترونية إلى الأمن الساحلي.
إذا وضعنا المصالح البديهية جانباً، يبقى التطبيع على الأرجح احتمالاً بعيداً قد لا يتحوّل إلى حقيقة بضربة واحدة. وقد تكون الخطوات التدريجية هي الأكثر واقعية مثل تخفيف القيود الاقتصادية والسياحية، والتي قد يكون من الصعب على السياسيين الإندونيسيين تبريرها على أسس عملية. ويمكن أيضاً تعميق العلاقة بصيغة متعددة الأوجه، إذ تستطيع إسرائيل (وربما الإمارات) توفير معلومات جوية وبحرية واستخباراتية قيّمة، مع قيام إندونيسيا ببناء علاقات أمنية أوثق مع حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك، لا ينبغي أن تغفل جاكرتا ولا القدس عن الصورة الأكبر – وهي أنه في عالمٍ تزداد فيه التهديدات انتشاراً على مستوى العالم وتميل الدول الاستبدادية الكبيرة بشكل متزايد إلى إظهار القوة، سوف تكسب الدول المعتدلة والديمقراطية الكثير وتخسر القليل عند التحالف مع بعضها البعض.
مايكل سينغ
معهد واشنطن