على الرغم من اختلاف أسباب الهجرة الأفريقية إلى العالم الجديد، بين من اُقتيد بالسلاسل من القارة السمراء في زمن بعيد، وآخرين هاجروا طوعاً إلى أرض الأحلام بحثاً عن “الحلم الأميركي”، إلا أن هذه الهجرة بمختلف طرقها غيرت الخريطة الديمغرافية لأهم دولة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا المكون الاجتماعي المهاجر وجد نفسه في لحظة تاريخية جزءاً من نسيج الولايات المتحدة، وكان لا بد له من أن يتموضع في خريطتها السياسية، ليستثمر مكتسباته في تحسين وضع أبناء العرق الذي عانى طويلاً في القارة الأميركية.
كانت اللحظة المهمة هي تلك التي وجد السود أنفسهم فيها أحراراً عام 1863، بعد ما وقع الرئيس أبراهام لينكولن قرار إنهاء الرق في الولايات المتحدة الأميركية.
السود… أنصار الحزب الجمهوري
لم تكن المفارقة الوحيدة في أول انتصار حقوقي للسود في أميركا أن الرئيس الذي وقع قرار تحرير العبيد وإلغاء الرق كان مرشح الحزب الجمهوري، فمن حسن حظ السود حينها أن الحزب الجمهوري هو من كان يسيطر على غرفتي الكونغرس، مقابل تمثيل ضعيف للحزب الديمقراطي الذي شكل كتلة المعارضة ضد قرار إلغاء العبودية في البلاد لأسباب اقتصادية وأخرى اجتماعية.
انتصار الجمهوريين هذا، هو ما أسس لموقع السود في الحياة السياسية الأميركية، إذ بات هذا المكون بطبيعة الحالة جزءاً أصيلاً من قاعدة الحزب اليميني حتى بعد وفاة لينكولن.
إذ شارك السود في التصويت على الانتخابات الرئاسية الأميركية لأول مرة في 1879، أي بعد أربع سنوات من اغتيال لينكولن، وأدلوا بأصواتهم لحزب الحقوق والحريات، ونصير الأقليات والسود، الحزب الجمهوري.
لم يكن هذا التشكيل الجديد للقاعدة الحزبية بسيطاً، فالأميركيون القادمون من أفريقيا كان تعدادهم في حينها يتجاوز 12 في المئة من سكان أميركا، الأمر الذي شكل تحولاً هائلاً في موازين القوى السياسية. فالحزب الجمهوري الذي لم يكن قد دخل البيت الأبيض قبل أبراهام لينكولن، سيطر منذ 1879 على البيت الأبيض لمدة 20 سنة من دون منافس، معلناً بداية فصل سياسي جديد للحزب المؤسس حديثاً (1854) الذي صار بعد ذلك أكبر حزب سياسي في الولايات المتحدة والكتلة المفضلة للأقليات لعقود طويلة.
الولادة الثانية للحزب الديمقراطي
كان منتصف القرن الماضي نقطة تحول بالنسبة إلى السود في أميركا، إذ شهد ذروة حراك الحقوق المدنية وبروز أهم أسمائها مثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس اللذين اغتيلا في فترات متقاربة خلال تلك الفترة، إضافة إلى نيلسون مانديلا ذي التأثير العالمي الذي اعتقل في جنوب أفريقيا قبل سنوات معدودة من اغتيال قرينيه الأميركيين.
أسهم هذا الحراك في إعادة تحريك الملف الحقوقي الكبير في دولة المهاجرين المفضلة، إذ لم تعد تلك المكاسب التي قدمها الحزب الجمهوري قبل قرن من هذا التاريخ كافية، وصارت الشريحة التي تشكل نسبة لا بأس بها من المجتمع المحلي بحاجة إلى مكاسب إضافية توازي الوعي الذي بلغته، والمطالب التي صارت مهتمة بها، وهي لا تقل عن أن يكون أفرادها مواطنين كاملي الأهلية ومتساوين مع أقرانهم البيض. إلا أن الحزب الجمهوري لم يتعامل مع الأمر بالديناميكية نفسها التي تعامل بها قبل 100 عام، مما خلق هجرة جديدة للسود، لكن هذه المرة كانت داخلية من اليمين إلى اليسار.
كان الحزب الديمقراطي حينها أكثر مرونة وتفاعلاً، وكان في السلطة رئيس لديه القدرة على التفاعل مع المطالب، هو جون كينيدي الذي عمل على تحسين الوضع الاجتماعي للأقلية والسعي نحو تحقيق مطالبها، حتى اغتياله عام 1963 ليخلفه ديمقراطي آخر، ليندون جونسون، الذي شكل وصوله إلى سدة الرئاسة تحولاً إستراتيجياً من وجهة نظر المحلل السياسي أحمد الفراج، بعد توقيعه قانون الحقوق المدنية للمساواة بين السود والبيض. واستمر جونسون بالدفع في اتجاه سلفه نفسه حتى نجح في إصدار قانون الحماية المدنية الذي ألغى أشكال التمييز العرقي في المرافق العامة، معطياً السود الحق في الانتفاع المتساوي والمتكافئ من الخدمات والمعاملة عام 1964.
ويضيف المحلل المتابع للشأن الأميركي أحمد الحنطي، أن تغييراً رئيساً حدث في ولايات الجنوب، موضحاً أن “الحزب الديمقراطي في الجنوب ومنذ نهاية مرحلة إعادة البناء (1863- 1877)، التي أعقبت الحرب الأهلية، كان يمثل الجنوبيين البيض الذين كانوا يضعون كل العراقيل الممكنة أمام السود لمنعهم من التصويت، سواء كان ذلك بفرض شروط خاصة للتصويت كدرجة تعليم معينة أو فرض رسوم عالية لا يستطيع السود دفعها. إلا أن الستينيات شهدت تحولاً في سياسة الحزب الديمقراطي، وكان التغيير قادماً من الأعلى سواء مع الرئيس كينيدي أو مع نائبه جونسون الجنوبي الذي أصبح رئيساً فيما بعد، حيث دُفع بقوانين المساواة في الحقوق المدنية ومُنع التمييز في الانتخابات، مما دفع السياسيين الرافضين لحركة الحقوق المدنية إلى ترك الحزب الديمقراطي والانتقال للحزب الجمهوري وانتقلت معهم قاعدتهم الانتخابية”.
ويضيف الحنطي في شرح هذا التحول “في نهاية السبعينيات اكتملت حركة انتقال المتعصبين إلى الحزب الجمهوري، لذلك رأينا أن آخر مرشح ديمقراطي فاز بتكساس مثلاً كان جيمي كارتر عام 1976. وتفاعلاً مع هذا التغيير بدأ الحزب الجمهوري باتخاذ سياسات اقتصادية لا تتناسب مع الأقليات، وهو ما دفعها إلى الانتقال إلى الحزب الديمقراطي”.
انتقال الأقليات إلى الحزب الديمقراطي عزز من شعبيته، ودفعه إلى اتخاذ خطوات جريئة في النسق ذاته. فاختار عمدة من أصل أفريقي لأول مرة لمدينة كليفلاند في أوهايو بعد هذا التاريخ بثلاث سنوات، ثم اختار باتريشيا روبرتس هاريس كأول وزيرة في تاريخ البلاد من أصل أفريقي في عهد كارتر.
وتوج الحزب جهوده في تمكين ذاته في أوساط الشريحة الأميركية الأفريقية بترشيح باراك أوباما عام 2008، كأول رئيس أميركي من أصل أفريقي. وهو ما بات يعد انتصاراً تاريخياً حققه المهاجرون إلى أميركا عموماً، والسود خصوصاً، ضد العنصرية والتمييز.
ذروة حسين أوباما
مثل فوز الكيني الأصل، باراك حسين أوباما، بالانتخابات الرئاسية الأميركية ذروة الحضور لشريحة الأميركيين ذوي الأصل الأفريقي في الحياة السياسية.
ففي آخر إحصائية سبقت الاستحقاقين الانتخابيين اللذين انتصر فيهما أوباما، بلغ عدد الأميركيين من أصل أفريقي 40 مليوناً من إجمالي الأميركيين، الذين كان يبلغ عددهم في حينها 305.5 مليون نسمة. وقد نجح الرئيس السابق في الحصول على أصوات 95 في المئة من السود الذين شاركوا في الانتخابات، وفقاً لمعهد “بيو” الأميركي للدراسات والإحصاء.
أما في 2012، فقد بلغت نسبة مشاركة السود مستوى قياسياً (66.6 في المئة)، ضمنت لأوباما تجديد إقامته في البيت الأبيض لأربع سنوات إضافية.
إلا أن هذه الفترة كانت سبباً في تراجع الحزب الديمقراطي، وفق الفراج. إذ جعلته أقل حماساً لترشيح الأسماء غير التقليدية، “فتجربة أوباما، الذي ارتكب أخطاء كبيرة داخلياً وخارجياً، دفعت الحزب في ظني إلى عدم المراهنة على الأسماء غير تقليدية، واختيار شخص كجو بايدن، السياسي العريق الذي قضى في واشنطن 17 سنةً”. ويضيف سبباً آخر “أضافة إلى ذلك يجب أن لا ننسى أن دونالد ترمب خرج عن خط واشنطن التقليدي، وما تهدف إليه النخبة السياسية الآن هو إعادة الأمور إلى نصابها، ومرشح متفرد كأوباما لن يكون مناسباً في مثل هذه الظروف، هم بحاجة لاسم تقليدي كلاسيكي يمثل واشنطن المعتادة”.
انتكاسة 2016
على الرغم من أن الأميركيين المهاجرين بشكل عام، والقادمين من أفريقيا بشكل خاص، لديهم مطالب ومظالم تاريخية، فإن ذلك لا يدفعهم إلى المشاركة بكثافة في الانتخابات، إذا ما اعتبرنا تجربة أوباما استثناءً تاريخياً في المرشح وإقبال الناخبين، بحسب إحصاءات.
ووفق مكتب الإحصاء الأميركي، شهدت انتخابات 2016 مشاركة 137.5 مليون ناخب وزيادة اقتراع البيض مقارنة بالشرائح الأخرى، التي ظلت بالمجمل ثابتة عند نسبة 2012.
وأتى هذا الارتفاع لصالح المواطنين البيض على حساب السود بالتحديد، الذين انخفضت نسبة مشاركتهم إلى أدنى مستوى منذ التسعينيات، حيث انخفض إلى 59.6 في المئة، وهو ما سمح لترمب بحسم الانتخابات لصالحه بعد أن تولى مهمة حشد البيض بخطاب عرقي بامتياز.
لكن الحنطي لا يتفق مع القول بتراجع المشاركة، إذ يرى أنه “مقارنة مع ديمقراطيات كبيرة أخرى يصح قول ذلك، لكن مقارنة الدورات الأميركية ببعضها لا توضح أي تفاوت يذكر باستثناء القفزة التي حصلت عام 2008 لأسباب متعلقة باستثناء المرشح أوباما”، متوقعاً مشاركة أكبر من الديموقراطيين هذا العام.
إلا أن الفراج يتوقع أن تضرب انتخابات هذا العام رقماً قياسياً غير مسبوق “من حيث نسبة التصويت، إذ نشهد حضوراً مهولاً سواء في التصويت المبكر أو التحضير لـ3 نوفمبر (تشرين الثاني)”، لكنه يتوقع حماساً من كلا الطرفين “جمهور ترمب اليميني المتعصب لديهم دافعهم الكبير أيضاً، فقد انتظروا عقوداً طويلة حتى يحصلوا على رئيس مثله وخسارته يصعب تعويضها”.
طيف جورج فلويد
لكن أياً يكن سبب التراجع الحاد لمشاركة الليبراليين وأنصار الحزب الديموقراطي في الانتخابات، إلا أن الأمر لا يبدو أنه سيتكرر هذه المرة، إذ خلقت الخسارة الماضية غير المتوقعة صدمة كبيرة لدى مناهضي السياسات المحافظة جعلتهم يدركون أهمية كل صوت في الانتخابات.
ولا يشك الحنطي في أننا سنقف على نسب مشاركة تاريخية، قائلاً “لا يوجد أي شك أننا في طريقنا لرؤية رقم تاريخي لمعدل المشاركة قد يتخطى 65 في المئة”، مبرراً ذلك بـ”ظواهر تشير إلى أن غضب الديمقراطيين من كل ما حدث منذ انتخاب ترمب وحتى الآن هو دافع مهم للمشاركة بكثافة”. لكن، في المقابل، قد يندفع الطرف الآخر إلى التصويت للأسباب نفسها، وفق الحنطي.
مناصرو هيلاري كلينتون، منافسة ترمب في انتخابات 2016، الذين شاركوا بشكل واسع في الاستفتاءات لم يشاركوا بالكثافة نفسها في الاقتراع. فقد اكتسحت المرشحة الخاسرة قياسات الرأي العام، كما حصل مع الاستطلاع الذي أجرته قناة “إن بي سي” قبل الانتخابات وأخرت نشره إلى 7 نوفمبر، الذي أظهر تقدم كلينتون على ترمب بفارق 6 نقاط مئوية، في حين توصل الاستبيان الذي أجري من قبل وكالة “بلومبيرغ” إلى استنتاج مفاده أن المرشحة الديمقراطية تتفوق على منافسها الجمهوري بفارق 3 نقاط مئوية على مستوى كامل الولايات المتحدة. أما الاستفتاء المشترك بين “واشنطن بوست” و”أي بي سي نيوز”، فقد قدر الفارق بين المرشحين بأربع نقاط لصالح كلينتون.
هذا الاتفاق بين الاستفتاءات الرئيسية في أميركا، جعل من إمكانية فوز الرجل “الطارئ” على السياسة أمراً غير قابل للتصور، وهو الدرس الذي تعلمه ناخبو الحزب الأزرق من تجربة الاقتراع الماضي.
إضافة إلى ذلك، خلقت قضية مقتل جورج فلويد حراكاً في أوساط الجماعات والأفراد المناهضين لترمب وسياساته، استغله الحزب الديمقراطي ومرشحه بايدن جيداً في الدعاية ضد الرئيس المتهم بالترويج للخطاب العنصري وخلق الاحتقان العرقي في الشارع الأميركي.
هذه الدعاية السياسية، التي تستثمر “روح جورج فلويد”، ترافقها دعوة إلى المشاركة الواسعة في الانتخابات لتغيير هذا الواقع بإسقاط الرئيس الجمهوري من سدة الحكم، مقابل خطاب مناهض يقوده الرئيس ابتداءً من شيطنة حراك “حياة السود مهمة” وعمليات التخريب التي صاحبتها، داعياً إلى إسقاط الديمقراطيين الذين لا يحمون ولاياتهم من “الجماعات التخريبية”.
ما سبق يشي بانتخابات تاريخية من حيث نسب المشاركة، بين ليبراليين يحاولون إنقاذ موروثهم الذي لن يبقي ترمب منه شيئاً إن استمر دورة أخرى في المكتب البيضاوي، ومحافظين يحاولون الحفاظ على مكتسباتهم إلى حين استعادة الحزب الأميركي توازنه.