مرّ يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عكس الرياح التي رصدتها أجواء واشنطن السياسية. يومها، كان الأميركيون، وكثير من شعوب العالم، حين صوّت 138 مليون أميركي لاختيار الرئيس الـ45 للولايات المتحدة، ينتظرون وصول أول امرأة لقيادة بلاد العم سام و”الحلم الأميركي”، وخلافة أول رئيس أميركي أسود. ذلك الانتظار، كان مبنياً على اعتقاد سائد، تحوّل ربما عبر الألسنة الشعبية، إلى ما يشبه النبوءة، أو بعبارات أبسط، إلى واحدة من “الأخطاء الشائعة” في فنّ السياسة، وهو أن الولايات المتحدة أصبحت جاهزة، بعد 227 عاماً على انتخاب أول رئيس أميركي، لأن تتولى سيّدة قيادتها. كانت عائلة كلينتون، في أمسية الثامن من نوفمبر من ذلك العام، تتحضر للاحتفال بفوز هيلاري، زوجة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، لوراثة إمبراطورية آل بوش، في أطول مكوث لعائلتين سياسيتين في البيت الأبيض. لكن المفاجأة كانت بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي ظلّ حتى اللحظة الأخيرة ما قبل صدور نتائج الاقتراع، بمثابة نكتةٍ سمجة، مُتّوَقَعاً له أن يمر عليه التاريخ الأميركي مرور الكرام، لدى تأريخ ذلك اليوم فقط، وتلك الانتخابات.
حصل ذلك أيضاً، بعدما كان الأميركيون والعالم، قد استوعبوا، بالتدريج، صعود نجم دونالد ترامب في تمهيديات الحزب الجمهوري. وفيما كان الديمقراطيون ممتنين لهذا الصعود، بعدما لم يجدوا في ترامب، الذي انتسب لحزبهم فترةً من الزمن، منافساً جدّياً لكلينتون، كان وقع الصدمة أكبر لدى الجمهوريين. الملياردير النيويوركي، الآتي من عالم الأعمال، أطاح أسماء سياسية داخل الحزب، من أمثال السيناتور عن ولاية كنتاكي راند بول، وتيد كروز، السيناتور عن تكساس، جيب بوش. هذه الأسماء، التي لقيت بداية دعماً من قيادات الحزب، انهارت تباعاً، وأعلنت انسحابها من السباق لصالح قطب العقارات ونجم تلفزيون الواقع، التي التفّت حوله لاحقاً، منصاعةً للإرادة الشعبية واللعبة الديمقراطية الأميركية.
اليوم، وبعد 4 سنوات منذ أن هُضم ترامب بصعوبة عقب فوزه في انتخابات 2016، وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم المرشح الديمقراطي جو بايدن في التصويت الشعبي، فإن الخوف من تكرار إحداث ترامب لمفاجأة ثانية، بما يُمكنّه من تجديد ولايته، يبقى هاجساً لمعارضيه، الذي رأوا في ولايته الأولى كارثة، كما تبقى أملاً لأنصاره، الذين اعتبروا أن “مُخلّصاً” سكن في البيت الأبيض.
وتكرار سيناريو 2016 مجدداً اليوم، عبر تجديد ترامب صفقته مع قاعدته الوفية، يبدو صعباً على كلا الطائفتين من المصوتين، الديمقراطيين والجمهوريين: بالنسبة للأولى، يستحيل امتداد الترامبية 4 سنوات إضافية، فيما ترى الثانية أن “الانقلاب” الترامبي لم يُستكمل بعد. وبين هذا وذاك، تبقى أسئلة كثيرة بلا أجوبة: هل يُعبّر ترامب فعلاً عن توجسات مجتمع قلق؟ لماذا أصبح هذا الملياردير النيويوركي متحدثاً باسم الريف الأميركي، ورجال “الكاوبوي”، وعُمّال المصانع المنسيين؟ وكيف تمكن، هو المتنقل من برجه الفاخر في نيويورك إلى منتجعه الخاص في مارألاغو بولاية فلوريدا، من بناء تلك العلاقة الوطيدة وكسب تأييد لوبيات عدة، دينية وسياسية ومالية، وربطها بأصوات المُهمشين البيض؟ وكيف استطاع إجادة الابتزاز في علاقاته الخارجية على النحو الذي سارت عليه ولايته الأولى؟ ولماذا وجد نفسه أقرب إلى زعماء دول يصنفون في خانة “الاستبداديين”، من حلفاء تقليديين في أوروبا وخارجها؟
لم يجد الديمقراطيون في دونالد ترامب، الذي انتسب لحزبهم فترةً من الزمن، منافساً جدّياً لكلينتون عام 2016
صاحب مقولة “لو لم أكن ما أنا عليه، لما بقيت في البيت الأبيض يوماً”، خاض معركة صعوده وصولاً إلى الحكم، بتريث شديد. وفصلت 28 سنة بين إعرابه للمرة الأولى في العام 1988 عن رغبته في دخول معترك السياسة، وهو العام نفسه الذي حصد فيه الموقع العاشر في سلّم أكثر الشخصيات الأميركية التي تحظى بإعجاب شعبي وفق معهد “غالوب”، وبين تحوله إلى شخصية منتخبة تعمل في المجال العام في 2016.
وخلال هذه السنوات الفاصلة، راودت قطب العقارات، الذي كانت شهرته وثروته تصب في خانة “الحلم الأميركي”، طموحات سياسية، منها الترشح لمنصب حاكم ولاية نيويورك. كما كانت له تعليقات في السياسة، منها انتقاد حرب العراق، وسياسات الهجرة، وما رأى فيه غبناً في الضرائب الأميركية على الأعمال. وترشح ترامب للرئاسة عن حزب “الإصلاح”، في 2000، لكنه قطع حملته منتقداً صراعات الحزب الداخلية، بعدما اقترح أن تكون مقدمة البرامج الشهيرة أوبرا وينفري نائبته المحتملة. حتى أنه دعم جون ماكين في وجه باراك أوباما في 2008 ثم ميت رومني، قبل أن ينقلب عليهما. وحدث كل ذلك، بعد أن ربطته بالرئيس الأميركي السابق علاقة عداءٍ مستتر أحياناً، وعلني أحياناً أخرى، وحملت طابعاً “فوقياً”ً، بعدما طالب في 2012، أوباما بكشف سجل ولادته، مشككاً كذلك بتحصيله العلمي.
ولا يبدو أن ترامب، المولود عام 1946، في ضاحية كوينز في نيويورك، من سلالة عائلة مهاجرين من غرب ألمانيا، وورث إدارة أعمال العائلة في مجال العقارات من والده فريديريك، مستعداً اليوم للتنازل بسهولة عن موقعه، حتى لو خسر معركة الانتخابات، بعد كل المعارك التي شهدتها ولايته الأولى، والتي فاز فيها، للمرة الخامسة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، بأصوات الهيئة الناخبة (المُجمع الانتخابي)، فيما تفوقت عليه كلينتون بالأصوات الشعبية، بفارقٍ بسيط.
ومنذ اليوم الأول لتنصيبه، خاض ترامب حرباً في مواجهة الديمقراطيين. حاربهم، بدعمٍ جمهوري، وحاربوه، وحاولوا عزله، إلى حدّ أن “مطاردة الساحرات”، باتت جزءاً لا يتجزأ من يوميات الأميركيين لأربع سنوات. لكن الرئيس، في المقلب الآخر، لم يحد في العموم عن توجهات الحزب الجمهوري، ولو أنه حاول التمرد مرّات عدة. في المحصلة، فقد مزّق لهم الاتفاق النووي، وانسحب من اتفاقية المناخ، ولا يزال مصمماً على إنهاء نظام “أوباماكير” الصحي. ومن أهم إنجازاته “الجمهورية”، جعل المحكمة العليا تميل للمحافظين.
وإذا كان من الممكن حصر إنجازات ترامب الداخلية، بتحسن الاقتصاد، فذلك محلّ جدل واسع، من وجهة نظر اقتصادية، لا سيما إثر الانهيار الكبير الذي تلقاه الاقتصاد الأميركي جرّاء تبعات وباء كورونا. وفيما طُبعت ولايته الأولى سياسياً، بالحرب التي شنّها عليه الحزب الديمقراطي منذ اليوم الأول، والتحقيقات المستقلة وداخل الكونغرس، والمساءلة التي كادت تقود لعزله، فإنها طُبعت أيضاً بأسوأ أزمة صحية منذ تفشي مرض الإيدز، في ثمانينيات القرن الماضي، وبإدارة كارثية لهذه الأزمة، تصل إلى حدّ الفضيحة السياسية والأخلاقية. وفيما حافظ ترامب خلال السنوات الأولى لرئاسته على نسبة الشعبية التي حصل إليها خلال انتخابه، تراجعت هذه الشعبية مع استفحال الوباء، بما ذكّر بانهيار شعبية جورج بوش الابن إثر فشل غزو العراق وسوء إدارته لأزمة الإعصار كاترينا.
دونالد وميلانيا وجو وجيل (غيتي)
لايف ستايل
ترامب وبايدن: عائلتان متناقضتان تتنافسان على البيت الأبيض
على الصعيد الداخلي أيضاً، وُصم عهد ترامب، بسياسة أميركية معادية للهجرة، وبسياسة أقسى تجاه الهاربين واللاجئين من أميركا الوسطى واللاتينية. وفي ظلّ ذلك، اعتمد ترامب لهجة عنصرية، لم توجه للخارج فقط، بل للأقليات في الداخل، ما عزّز الانقسام الذي تفجر في تظاهرات واسعة وحراك شعبي مدافع عن الحقوق المدنية. ولاقى ترامب هذه التظاهرات، بخطابٍ تقسيمي أشد، مستعيداً تاريخ الكونفيدرالية ومؤججاً الانقسام بالتحشيد ضد ما يسميه “اليسار الراديكالي”. وأصبحت مجموعات راديكالية يمينية متطرفة، أكثر ظهوراً في الشارع الأميركي، في عهد الملياردير النيويوركي.
ونقل ترامب خلال ولايته مقر إقامته من نيويورك إلى فلوريدا، فاتحاً الحرب على الولاية التي ولد فيها. وفي ما بدا ذلك في إطار رفضه للصبغة الديمقراطية التي تلف مدينة نيويورك، إلا أن تقارير عدة ربطتها بتهربه من الضرائب. وانعكست الخلافات بين ترامب ومجلس النواب في الكونغرس، مرات عدة، شللاً حكومياً، كما انعكست خلافاته مع حكام الولايات الديمقراطيين، على إدارة الوباء.
فصلت 28 سنة بين إعراب ترامب للمرة الأولى عن رغبته في دخول معترك السياسة وانتخابه رئيساً
على صعيد الشكل، عُرف ترامب بأنه “المغرد الأرفع” على “تويتر”، مستعيضاً بذلك عن الإعلام النمطي، الذي لم يخف بغضه له، باستثناء ظهوره المتكرر على شبكة “فوكس نيوز” المحافظة، والتي باتت تلقب بالـ”برافدا” الأميركية. كما عرف ببراعته في إطلاق الألقاب والأوصاف، المستمدة من خلفيته في مجال الترفيه التلفزيوني، من “جو النعسان”، في إشارة إلى منافسه في الرئاسيات جو بايدن، و”هيلاري الشريرة”، و”نانسي المجنونة” (رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي)، إلى “مطاردة الساحرات” التي أطلقها على تحقيقات التدخل الروسي في حملته، و”رجل الصواريخ”، عن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، و”ديكتاتوري المفضل”، كما وصف يوماً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وأطلق ترامب على وباء كورونا اسم “الفيروس الصيني” في إشارة عنصرية، لم تسلم منها نائبات في الكونغرس، من أصول أفريقية ولاتينية. وسجّل الإعلام الأميركي وموقع “تويتر”، تصريحات “مضللة” عدة للرئيس، الذي أصبح عدّ “كذباته” تقليداً صحافياً. كما برز دور لعائلة ترامب سياسياً، عبر صهر الرئيس جاريد كوشنر، فيما شهدت إدارة الرئيس الأميركي الـ45 تقلبات عدة، وتغيير وجوه، وإقالات وتعيينات بالجملة، أفقياً وعمودياً.
خارجياً، كان على المتابعين للشأن السياسي الأميركي، أن يقرأوا جيداً كتاب “فنّ عقد الصفقات”، لترامب، ليفهموا بعض “شطحاته”، كعلاقة الصداقة مع زعيم كوريا الشمالية، وتقاربه مع حكام دول وشخصيات سياسية تصنف في خانة “الاستبداديين”. وربما، بالنسبة للشعوب العربية، كان عليهم مقاربة سياسة الابتزاز التي اعتمدها ترامب مع عددٍ من أنظمة هذه الشعوب، من هذه الزاوية، وسياسة عقد الصفقات، التي أوصلت إلى أكبر نكسة منذ عقود في تاريخ القضية العربية والإسلامية الأولى، فلسطين، مع ولادة “صفقة القرن” لتصفيتها، وتدحرج “دومينو” التطبيع مع “دولة” إسرائيل. وإذا كان هناك من “نبوءات” فعلية تحققت، فهي أن الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل الأولى، ومعها دول أخرى، كانت تحتاج إلى رئيس مثل ترامب، للتحرر من عبء الـ”ستاتيكو” الذي ظلّ مرافقاً لهذه القضية، والذي كان من الصعب البتّ فيها بـ”جراحة طبيعية”، من دون الانحياز الكامل لإسرائيل.
بلغت حملة الضغوط الاقتصادية القصوى على “الأنظمة والكيانات المعادية” للولايات المتحدة ذروتها، في عهد ترامب
في الملفات الخارجية أيضاً، أكمل ترامب ما بدأه أوباما، من التوجه شرقاً، مع فتح جبهات حرب تجارية ضروس، وحرب ضرائب، شملت حتى الجارة الأميركية الشمالية كندا، وهو جزء من سعي جمهوري. سياسة أوباما، ومعها المنظومة الأميركية التقليدية، سار ترامب على دربها، بجعل الصين أولوية.
في منطقة الشرق الأوسط الكبير، خاض ترامب تبعات الربيع العربي، بمنطق الديمقراطية الأميركية البراغماتية، وأحياناً الانتقائية، مواصلاً النأي بواشنطن عن إسقاط النظام السوري، ودعم “ثورات مضادة” أحياناً، ومواصلة نزيف حرب اليمن. وأنجز ترامب ملف “محاربة الإرهاب” في ولايته الأولى، محاولاً تقليص عدد القوات الأميركية في أكثر من بؤرة ملتهبة. وعلى غرار أوباما الذي شهد عهده قتل زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن، نفذت قوات أميركية خاصة خلال ولاية ترامب، عملية تصفية مؤسس وزعيم تنظيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، في إدلب السورية، فيما قتل قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، بغارة جوية أميركية في بغداد.
ولجمت الدولة العميقة، ومنها “البنتاغون”، “حدس” الرئيس مرّات عدة، عبر عرقلة انسحابات نهائية، كان يريدها لقوات بلاده من أفغانستان وسورية. وفيما سجلّ في ولايته الأولى تمزيق الاتفاق النووي، والعودة عن “تطبيع” على مراحل مع كوبا، بلغت حملة الضغوط الاقتصادية القصوى على “الأنظمة والكيانات المعادية”، ذروتها، في سياسة اللاسلام واللاحرب.
وتوجه ترامب في أول زيارة خارجية له إثر تنصيبه رئيساً في البيت الأبيض، إلى المملكة العربية السعودية، في مايو/أيار 2017. ولا تزال أسئلة كثيرة تدور حول ماهية الاتفاقات التي عقدها هناك حول “البلورة السحرية” في قصر اليمامة في الرياض، لتنفيس الاحتقان الخليجي ولدى بعض الأنظمة العربية أولاً من عهد أوباما، الذي وصف أنظمة لم يسمها يوماً بـ”الراكبة بالمجان”. هذا الوصف، اعتمده ربما ترامب، في تعاطيه مع أوروبا الغربية، عبر المطالبة بثمن دائم لحلفها الأورو – أطلسي. لكن من جهة لقاءات الرياض، فإن ما تلاها، لم يعد كما قبلها، إذ شهدت السعودية بعد وقت قصير إطاحة نجل الملك سلمان بن عبد العزيز، الأمير محمد بن سلمان، بولاية العهد لابن عمه، الأمير محمد بن نايف، حليف الأميركيين في محاربة الإرهاب، واعتقالات “الريتز” الشهيرة، لعشرات الأمراء ورجال الأعمال السعوديين، في طريق صعود “أم بي أس”، كما يعرف بن سلمان، وبينهما حصار قطر، وربما قبل ذلك كلّه وضع اللبنة الأولى في مشروع “صفقة القرن”. وبلغ تهميش ترامب للكونغرس حداً قاسياً، حين تغاضى عن غضب تنامى داخل السلطة التنفيذية، إثر جريمة اغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في العام 2018،. من جهته، ظلّ العراق ساحة كباش إيراني – أميركي، وشهد أول ضربة إيرانية مباشرة على قاعدة أميركية، فيما تحاول واشنطن إنجاز اتفاق سلام ليبي في آخر أيام الولاية الأولى لترامب، بغطاء أممي، لا تزال مؤشرات نجاحه ضعيفة.
وفيما لم يمس ترامب بمؤسسة حلف شمال الأطلسي، فإنه مزّق عدداً من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بكبح انتشار الأسلحة الفتاكة والنووية. وفي سياسة انكفائية وانعزالية، انسحبت الولايات المتحدة في عهده من عدد من المنظمات الأممية، والاتفاقيات الأممية، في تكريس أيضاً لتوجهات المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري.
داليا قانصو
العربي الجديد