يقترب نسق إدارة الصراعات في الشرق الأوسط من نقطة انقلاب، مع انتقال السلطة من ترامب إلى بايدن. الرئيس الأمريكي المنتخب يريد أن يتخلص من سياسة «الضغوط القصوى» التي حكمت ما يمكن تسميته بالمسألة الإيرانية، في السياسة الخارجية الأمريكية خلال حكم ترامب. تلك السياسة نفسها كانت انقلابا على سياسة الرئيس باراك أوباما، الذي حاول إقامة وفاق مع إيران ودمجها في المجتمع الدولي، وكانت تسعى أيضا إلى إقامة وفاق عربي – إيراني، من خلال تشجيع الطرفين على تهدئة التوتر، وتطبيع العلاقات.
سياسة الوفاق في الشرق الأوسط هي آخر ما يتمناه تجار الحروب، ومن المرجح أن تتعرض إيران لحين موعد تنصيب الرئيس الجديد لوابل من العقوبات والاستفزازات، بما في ذلك المسلحة، بواسطة ترامب، الذي يفضل الاستمرار في سياسة الضغوط القصوى، حتى موعد رحيله عن البيت الأبيض. لهذا فإن طريق بايدن للانتقال إلى «سياسة الوفاق» سيكون مليئا بالعقبات. ونستطيع أن نميز ثلاث عقد رئيسية سيتعين على بايدن حلها، قبل أن يصل إلى تحقيق هذا الانتقال.
العقدة الأولى تتمثل في أن فوز الجمهوريين في انتخابات الإعادة، لعضوية مجلس الشيوخ في جورجيا، يمكن أن يحوِّل رئاسة بايدن إلى جحيم سياسي للحزب الديمقراطي. ومن المتوقع أن تكون سياسة الإدارة الجديدة تجاه إيران موضوعا لمواجهة شرسة بين الرئيس والكونغرس، نظرا لقوة اللوبي الصهيوني داخل مجلس الشيوخ، ووزن الجمهوريين داخل المجلس، حتى لو فقدوا واحدا من المقعدين أو كليهما اللذين ستجري عليهما انتخابات الإعادة.
وهناك طرق عديدة للتخفيف من حدة معارضة الجمهوريين للسياسة الخارجية للإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط، مثل اختيار واحد أو أكثر من الجمهوريين الوسطيين في الكونغرس، ليكون عضوا في فريق بايدن الخاص بإيران، أو سفيرا للولايات المتحدة في الإمارات أو السعودية، أو الاستعانة ببعض مسؤولي الإدارة السابقة، مثلما فعل أوباما، عندما اختار روبرت غيتس وزيرا للدفاع في حكومته الأولى.
وأشد العقد تشابكا وصعوبة، التي ستلعب دورا حاسما في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عموما، عقدة إسرائيل مع إيران، التي ترتبط بعدد من القضايا الشائكة بالنسبة للولايات المتحدة ولحلفائها في المنطقة، ومن هذه القضايا البرنامج النووي الإيراني، خصوصا بعد التقرير الأخير لوكالة الطاقة الذرية، الذي ذكر أن مخزون اليورانيوم المخصب لدى إيران يعادل 12 مثل الكمية المسموح بها طبقا للاتفاق النووي، وأن إيران بدأت في تشغيل جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي، أكبر قدرة من المسموح بها، كما بدأت في إنتاج طرازين أكثر تقدما. ومن القضايا المرتبطة بعقدة إسرائيل أيضا احتياجات ملء الفراغ العسكري في الشرق الأوسط مع انسحاب الولايات المتحدة، وضرورة حماية التفوق النوعي العسكري لإسرائيل، وتعزيز التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، خصوصا بعد الكشف عن أن إيران كانت تستضيف الرجل الثاني في تنظيم القاعدة المكنى (أبو محمد المصري) الذي كان مطلوبا في الولايات المتحدة، لدوره في تفجير سفارات أمريكية في افريقيا عام 1998، ونفذت المخابرات الإسرائيلية عملية قتله مع ابنته مريم أرملة حمزة بن أسامة بن لادن داخل طهران في شهر أغسطس الماضي.
تعتبر الإدارة الأمريكية أن استراتيجية القيادة الإيرانية تمثل تهديدا للأمن القومي الأمريكي، في عدد من المحاور الحساسة، منها تهديد القوات الأمريكية في العراق، واحتضان وتمويل المنظمات الإرهابية وتزويدها بالسلاح وبتكنولوجيا تصنيعه، وتهديد حلفاء الولايات المتحدة، خصوصا إسرائيل والسعودية، من خلال استخدام جنوب لبنان والجولان وقطاع غزة كقواعد قريبة لتهديد إسرائيل، واستخدام قوة الحوثيين في اليمن لتهديد السعودية، وتهديد ممرات الملاحة العالمية في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن سياسة «الضغوط القصوى» أدت عمليا إلي ازدياد قوة التيار المتشدد في إيران، وهو ما سيضع الإدارة الأمريكية الجديدة أمام اختبار صعب، خصوصا إذا فاز المتشددون في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو المقبل.
لم يُخْفِ الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن خلال حملته الانتخابية رغبته في العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقعته القوى العالمية الرئيسية ومنها بلاده مع إيران، عام 2015 عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما. وانتقد بايدن سياسة «الضغوط القصوى» التي اتبعها ترامب منذ انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، مشددا على أنها انتهت إلى تمكين إيران من إنتاج كميات من المواد النووية المخصبة، تجعلها أقرب إلى إنتاج سلاح نووي أكثر من أي وقت مضى، وذكر أنه سيتبع سياسة أكثر مرونة من أجل تشجيع إيران على الالتزام بنصوص الاتفاق النووي.
وبافتراض حدوث انتقال سلمي وسلس للسلطة في البيت الأبيض، فإن توقيت رجوع الولايات المتحدة للاتفاق النووي لن يكون عاجلا؛ لأنه يحتاج إلي توفير استعدادات مسبقة، أهمها تكوين فريق بايدن المكلف بإدارة المفاوضات مع إيران، وصياغة رؤيته، ثم إجراء حوار للتوصل إلى رؤية مشتركة مع كل من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وتحديد ما إذا كان الهدف ينحصر في مجرد إنقاذ الاتفاق، أم تعديله؟ أو التفاوض على اتفاق جديد يشمل قضايا أخرى تثير قلق أطراف إقليمية على رأسها إسرائيل والسعودية والإمارات.
سياسة الوفاق في الشرق الأوسط هي آخر ما يتمناه تجار الحروب، وستتعرض إيران لحين موعد تنصيب الرئيس الجديد لوابل من العقوبات
وقد جسدت كلمة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى أعضاء مجلس الشورى مساء 11 نوفمبر الحالي حقيقة أن أطرافا غير إسرائيل، تحاول ممارسة ضغوط على الرئيس الأمريكي المنتخب قبل توليه منصبه، إذ دعا الملك المجتمع الدولي «لاتخاذ موقف حازم تجاه إيران، يضمن منعها من الحصول على أسلحة دمارٍ شاملٍ وتطوير برنامج الصواريخ البالستية وتهديد السلم والأمن». وفي ذلك يتفق سلمان ونتنياهو في الدعوة إلى استمرار التشدد وسياسة «الضغوط القصوى» وإسقاط الاتفاق النووي الحالي، وإحلال اتفاق جديد محله يتضمن شروطا تنطوي على استسلام طهران، لحرمانها تماما من حق امتلاك القدرات المتناسبة إقليميا للدفاع عن أمنها القومي، خصوصا في مواجهة التهديد النووي الإسرائيلي. وليس من المتوقع أن تقبل إيران بهذه الشروط، أو أن تتمكن إسرائيل والولايات المتحدة من فرضها بالقوة في حرب مفتوحة، رغم أن هذه الحرب ما تزال خيارا إسرائيليا، باستخدام دول أخرى في المنطقة مثل السعودية والإمارات والبحرين. وقد سبق أن رفض جنرالات إسرائيل شن عمليات عسكرية وقائية ضد إيران، وقت كان كل من جابي أشكينازي (وزير الخارجية الحالي) وبيني غانتس (وزير الدفاع الحالي ورئيس الوزراء التبادلي) رئيسا لأركان حرب القوات الإسرائيلية بين عامي 2007 و2014. كذلك تقف ضد الخيار العسكري عوامل دولية وإقليمية مهمة، منها صعود قوة الصين، وعودة القوة الروسية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، والعلاقات الاستراتيجية بين إيران وكل من القوتين، وانكشاف حلفاء إسرائيل في المنطقة، السعودية والإمارات لضربات الحوثيين في اليمن، رغم ترسانة الأسلحة التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها.
وإذا أراد بايدن التقدم بخطوات عملية تجاه إيران، لإصلاح ما افسده ترامب؛ فإن ذلك يصطدم أولا بشعور إيران، حكومة وشعبا، بعدم الثقة في مدى التزام الولايات المتحدة بسياستها ومواقفها، ولذلك فإن مشروع بايدن الوفاق السياسي مع إيران يجب أن يتضمن خطوات مبكرة منها:
أولا: تبني خطاب سياسي واضح ينطلق من ضرورة إعادة دمج إيران في المجتمع الدولي، وإرسال إشارات بهذا الشأن إليها، ربما عبر سلطنة عمان، التي لعبت دورا مهما في إنجاح مفاوضات الاتفاق النووي عام 2015 بتوفير قناة اتصال فعالة وموثوق فيها، تؤمن هي نفسها بضرورة إحلال السلام في الشرق الأوسط، على أساس مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ثانيا: اتخاذ إجراءات لبناء الثقة تكون متزامنة ومتبادلة، ومتناسبة، تضمن صيانة حقوق إيران الطبيعية، كدولة عضو في النظام الدولي، مستقلة وغير منقوصة السيادة، ولا تخضع لعقوبات ظالمة غير مبررة، منها على سبيل المثال:
إعلان سحب طلب الولايات المتحدة بتفعيل آلية العقوبات ضد إيران بمقتضى الاتفاق النووي، وهو الطلب الذي رفضه مجلس الأمن.
إسقاط طلب تمديد عقوبات الأمم المتحدة ضد إيران، التي انقضى أثرها في الشهر الماضي، وهو الطلب الذي رفضه مجلس الأمن أيضا.
الامتناع عن التهديد بفرض عقوبات ثانوية على البنوك والشركات والدول التي تتعامل تجاريا مع إيران، بما في ذلك الدول الأوروبية التي تسعى لتجنب العقوبات الثانوية، وتفعيل آلية التمويل التجاري المقترحة (إنستيكس).
إلغاء العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني، التي تعرقل عمليات البنك في تسوية المدفوعات، ومن ثم تحرم إيران من استخدام تسهيلات تمويل التجارة بينها وبين العالم، كما تحرمها من الحصول على مستحقاتها عن مبيعات نفطية في أوقات سابقة.
إعادة العمل بالاستثناءات التي كانت الولايات المتحدة قد منحتها لبعض الدول مثل، الصين وتركيا والعراق والهند، فيما يتعلق باستيراد النفط الإيراني، وهو ما يسمح لإيران بتصدير جزئي لنفطها. وقد أوقفت الولايات المتحدة العمل بهذه الاستثناءات، اعتبارا من اول مايو من العام الماضي.
إلغاء كل أشكال الحظر على تجارة إيران مع دول العالم في مجالات السلع الغذائية والمواد الطبية والأدوية، لما لها من آثار كارثية على الشعب الإيراني في ظل وباء كورونا.
في مقابل ذلك تلتزم إيران من تاريخه، وبالتزامن مع إجراءات بناء الثقة بكل النصوص الواردة في الاتفاق النووي.
ثالثا: بدء مفاوضات لحل مشكلة مخزون اليورانيوم المخصب، من حيث الكمية ونسب التخصيب، بهدف العودة إلى المستويات المنصوص عليها. وستكون هذه مفاوضات شاقة وتفصيلية من النواحي التقنية والتجارية والقانونية. ويتعين على إيران أن تمضي مع شركائها في الاتفاق النووي بالسرعة المتناسبة، بهدف العودة إلى الوضع الطبيعي، ضمن النظام الدولي. وعندما تتحقق شروط التخلص من كميات المخزون الزائد، ومن اليورانيوم عالي التخصيب، تنقضي كل العقوبات المفروضة على إيران، بشرط استمرار التزامها بنصوص الاتفاق حتى نهاية أجله.
رابعا: وضع الترتيبات الضرورية لبدء جولة جديدة من المفاوضات، لتجديد الاتفاق النووي قبل انتهائه، على أن يتضمن ذلك تعديل بعض نصوصه، أو وضع اتفاق جديد يلبي احتياجات تحقيق الأمن والسلام، والحد من الانتشار النووي في المنطقة ككل. إن مدة سريان الاتفاق الحالي، طبقا لقرار مجلس الأمن 2231 تنتهي في أكتوبر 2025. ومن ثم فمن الضروري أن تبادر أطراف الاتفاق إلى إعداد جدول أعمال للمفاوضات، خصوصا أن التفاوض بشأن اتفاق 2015 استغرق 9 سنوات. ومن الضروري أن تتضمن المفاوضات مناقشة كافة القضايا المرتبطة بدور إيران في تحقيق الاستقرار الإقليمي، بما يزيل دواعي القلق، ويوفر عوامل الاطمئنان للأسرة الدولية وللشعوب العربية وغير العربية في الشرق الأوسط.
إبراهيم نوار
القدس العربي