يتصاعد الجدل في العراق بعد إعلان ألوية المرجعية النأي بنفسها عن النشاط السياسي والحزبي، والرسائل العديدة التي وجهها هذا الإعلان إلى الأحزاب ذات الأجنحة المسلحة، وتحديداً الأطراف الموالية لإيران.
وعقدت ألوية المرجعية أول مؤتمر من نوعه بهدف وضع النقاط على الحروف، بما يخص هيئة الحشد الشعبي ومستقبل تلك المؤسسة، في ظل حالة الاستثمار السياسي من قبل عديد من الأطراف.
ويمثل هذا المؤتمر أول إعلان رسمي من قبل الألوية التابعة لمرجعية رجل الدين الشيعي علي السيستاني عن الانفصال التام عن الجزء الولائي من الهيئة، والارتباط المباشر بالقائد العام للقوات المسلحة، خصوصاً بعدما وصل إلى النجف كثير من المطالبات، خلال السنوات الماضية، مفادها الإيذان بتفكيك منظومة الحشد التي أعطتها فتوى السيستاني شرعية حمل السلاح.
حاضنة الفتوى
بعد فترة طويلة سحب الغطاء الذي تتمتع به الفصائل المسلحة لأول مرة، في مؤتمر استمر ثلاثة أيام في مدينة كربلاء، تحت عنوان “حشد العتبات حاضنة الفتوى وبناة الدولة”.
ولعل عنوان المؤتمر يعطي انطباعاً واضحاً عن غاياته في التمييز داخل الهيئة بين الألوية التابعة للمرجعية، هي التي تأسست بعد فتوى “الجهاد الكفائي”، وبقية الأطراف التي تدين بالولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي، وتستغل مرجعية النجف كشعار للاستثمار السياسي، خصوصاً أن غالبية أذرعها المسلحة تعود إلى ما قبل تأسيس هيئة الحشد الشعبي.
وأكدت ألوية المرجعية في البيان الختامي التزامها الكامل بالقانون والدستور ومنع مقاتليها من القيام بأي إجراء يخالفهما، بما في ذلك الدخول في النشاط السياسي أو الارتباط الحزبي أو الاستغلال الوظيفي بكل أشكاله.
وأضاف البيان “كما نلتزم منح كامل الحرية لمقاتلينا في اتخاذ قراراتهم الخاصة بالاشتراك في العملية الانتخابية كناخبين حصراً، وليسوا مرشحين فعلاً، وانتخاب مرشحيهم الذين يعتقدون أنهم سيغيرون الواقع المتردي ومحاربة الفساد، وغير ذلك من تطلعات الشعب”.
وأكد البيان ارتباط “حشد العتبات المقدسة” بالقائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، مطالباً الحكومة بـ”إتمام خطوات هذا الارتباط بشكل عاجل”.
منطلقات المرجعية واستثمار الحشد
في السياق ذاته، يشير أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي إلى مسارين انطلقت منهما المرجعية في بيان حشد العتبات الأخير، تمثلا بـ”ضرورة الشروع بملف حصر السلاح بيد الدولة قبيل الانتخابات، فضلاً عن درء مخاطر استخدام عنوان المرجعية في أي صراع مسلح بين الأطراف السياسية في هذا الظرف المحتقن”.
ويضيف الفيلي “المرجعية تحاول تأطير عمل هيئة الحشد ضمن إطار واضح في وقت تداخلت فيه الخنادق داخلها، وبات ضرورياً اتخاذ مواقف صارمة تبين الاختلافات بين حشد المرجعية وبقية الأطراف التي تؤمن بولاية الفقيه وتتحرك ضمن مسارات سياسية”.
وعلى الرغم من حديث المرجعية الدائم عن متطوعي الفتوى وتمييزهم عن بقية الأطراف، كما يعبر الفيلي، فإن “هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها فرز صريح للخنادق داخل الحشد الشعبي”.
وكانت الألوية الأربعة، وهي “فرقة العباس القتالية”، و”فرقة الإمام علي القتالية”، و”لواء أنصار المرجعية”، و”لواء علي الأكبر”، قد أصدرت بياناً، في أبريل (نيسان) الماضي، أكدت فيه انفكاكها من الهيئة، في حين أشارت إلى أنها “تدرس انضمام بقية القوات والألوية الراغبة في ذلك وفق المعايير الوطنية والضوابط القانونية والالتزامات الدستورية”.
وأمر رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي حينها، بإلحاق الألوية التابعة للعتبات بمكتب القائد العام للقوات المسلحة.
وتحدثت تسريبات في حينها، عن أن أصل الإشكالية يعود إلى تنصيب أبو فدك المحمداوي رئيساً لأركان العمليات داخل “هيئة الحشد الشعبي”، حيث أكدت ألوية المرجعية أن تنصيب خليفة لأبي مهدي المهندس يتطلب “سياقات قانونية غير متوفرة الآن في ظل حكومتين، واحدة تصرف الأعمال والأخرى لم يكتمل تكليفها”.
هجوم على ألوية المرجعية
ولم تُبدِ حتى الآن قيادات الأطراف الموالية لإيران أي ردود فعل على قرارات حشد العتبات الأخيرة، إلا أن عديداً من الشخصيات المقربة منها كانت لها ردود فعل حادة وغير مسبوقة إزاء هذا التحرك، ما يبين حجم مخاوفها من هذه الخطوة.
وهاجم القيادي السابق في حزب الدعوة والمقرب من قيادات الفصائل المسلحة سليم الحسني قرارات حشد العتبات، واصفاً إياه بـ”حشد الانشقاق”.
وقال الحسني، في تغريدات على “تويتر”، إن “مؤتمر حشد العتبات إيعاز للكاظمي بإضعاف الحشد الشعبي والتمهيد لضربه”، مشيراً إلى أن “خطورة هذه الخطوة أنها تعمل على عسكرة الحوزة العلمية، ما يجعل الشيعة أكثر عرضة للاقتتال الداخلي”.
وتابع “كانت خطبة الجمعة تتحدث عن الوحدة والانسجام وترك الخلافات بين السياسيين، فإذا بنا نجد أن أصحاب الخطبة يشقون الصف الشيعي بسكين السفير الأميركي، ويحدثون التصدع في أهم وأقوى خط دفاعي للشيعة وهو الحشد الشعبي”.
استغلال الحشد والانتخابات المبكرة
ولعل الأمر الذي دفع ألوية المرجعية إلى اتخاذ قرار كهذا، يرتبط بشعور مرجعية السيستاني بقلق بالغ من احتمالات نشوء نزاعات مسلحة تستغل الفصائل المشاركة فيها المرجعية كغطاء لها، فضلاً عن محاولة تمهيد الطريق أمام الحكومة العراقية للتقدم في ملف حصر السلاح بيد الدولة، وهو الأمر الذي لطالما ركزت عليه مرجعية السيستاني، خصوصاً عند الحديث عن توفير الأجواء الملائمة للانتخابات المقبلة.
ويرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي، أن “الخلافات بين حشد المرجعية وبقية الفصائل تعود إلى بداية المعارك مع تنظيم (داعش)، لكنها تفاقمت في المرحلة الحالية وباتت المرجعية تدرك أن بعض الجهات تحاول اختطاف الحشد واستخدامه لغايات سياسية”.
ويوضح أن “المرجعية غير قادرة على إسكات طموح الفصائل في العمل السياسي، لذلك حددت أن الالتزام بالفتوى يحتم على الأطراف داخل الحشد عدم الذهاب باتجاه المسارات السياسية”.
معاناة الحركات الإسلامية الشيعية حالة خواء على مستوى الرصيد الجماهيري، بحسب الشريفي، هي التي دفعتها لـ”إعادة المحاولة في استخدام عنوان الحشد وغطاء السيستاني كورقة وحيدة في الانتخابات المقبلة، وهو الأمر الذي دفع أجنحة العتبات لقطع الطريق أمام هذا الاستثمار”.
ويشير الشريفي إلى أن المرجعية تدرك أيضاً أن الحشد “بات يستخدم كورقة ضغط على القرارات السياسية والكاظمي”، لافتاً إلى أن “السيستاني سحب البساط من تحت اقدام الميليشيات، لقطع الطريق أمام إمكانية استثمار سلاح الفصائل في التأثير على نتائج الانتخابات أو الضغط على الحكومة”.
ويشير إلى أن “أحداث الناصرية الأخيرة ربما تكون قد عززت مخاوف المرجعية ودفعتها مبكراً لهذا الإعلان”.
وعن عدم صدور رد من الفصائل الموالية لإيران على مؤتمر حشد العتبات، يبين الشريفي أن “الأحزاب ذات الأجنحة المسلحة تقع تحت ضغط كبير، لأنها إذا أعلنت التمرد ستخسر الجسم الأكبر من رصيدها الانتخابي، فضلاً عن عدم قدرتها على التخلي عن السلاح الذي يمثل بوابتها إلى العمل السياسي”.
قطع الطريق أمام استعادة الأجواء الطائفية
تأتي تلك الخطوة في وقت حرج، خصوصاً على أركان البيت الشيعي الرئيسة، حيث تزامنت مع تحركات زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لإعادة ترميم البيت الشيعي، وإحراز ولاء الأطراف الرئيسة داخله، إلا أن تلك الخطوة ربما ستعرقل تلك المساعي، وتدفع الفاعلين الأساسيين داخل الحراك السياسي الشيعي إلى إعادة حساباتهم.
ويقول الكاتب هشام الموزاني، إن “التطورات الأخيرة والمتسارعة في المشهد الشيعي أقلقت السيستاني بشكل كبير، خصوصاً ما يتعلق بسلطة السلاح في الشارع العراقي، وهيمنته على القرار السياسي، فضلاً عن التوجهات الأخيرة للتيار الصدري التي تحاول استعادة أجواء الحراك الطائفي قبيل الانتخابات”، مبيناً أن “تزامن تلك الأحداث مع ما جرى في الناصرية، دفع المرجعية إلى ضرورة اتخاذ قرار أكثر حزماً ووضوحاً”.
ويضيف الموزاني “لا يمكن فصل هذه الخطوة عن حراك انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، خصوصاً مع استمرار مطالب الشباب بحصر السلاح بيد الدولة، وسحب الشرعية من الفصائل المسلحة التي تتهم من النشطاء بتنفيذها عمليات قمع وترهيب”، مبيناً أن “المرجعية تدفع بشكل متكرر العراقيين إلى الاشتراك بالانتخابات، وربما تكون تلك مبادرة أولى منها في سياق تحقيق أبرز متطلباتها المتمثلة بقطع الطريق أمام السلاح المنفلت للتأثير على النتائج”.
ويقلل هذا القرار من طموح بعض الفصائل التي ترغب في أن يكون الحشد الشعبي مؤسسة رديفة تنافس الوزارات الأمنية، وتؤثر في القرار السياسي، ويغلق الطريق أمام بعض الفصائل التي تدعي تمثيل المرجعية والتحرك وفق توجيهاتها.
أحمد السهيل