لم تسلم أي دولة في العالم من التأثيرات السلبية لتفشي كورونا الذي أوقف الحركة الاقتصادية، ففرغت الطرق والمدن من روادها، وأغلقت المحال والشركات، والتزم الناس بيوتهم أياماً وأسابيع.
كورونا، وباء العصر الجديد، استحكم وتحكم بالبلاد والعباد، وفي وقت يتطلع فيه العالم إلى اللقاحات الموعودة، تلملم الدول ما تبقى لديها من مقومات وقدرات اقتصادية، فالخسائر التي بدأت من توقف عجلة الإنتاج والأعمال ترجمت تراجعاً في الإيرادات والتمويل، وطالت الاحتياطات النقدية بالعملات الأجنبية للمصارف المركزية.
والاحتياطات الأجنبية تشمل النقد الأجنبي، والودائع في الخارج، والذهب، إضافة إلى حقوق السحب الخاصة، والاحتياط في صندوق النقد الدولي، والاستثمارات في الأوراق المالية في الخارج، وهي عادة ما تساعد الدول في دعم عملتها المحلية وسياسة سعر الصرف والأنشطة الاقتصادية، كما تساعد هذه الاحتياطات في تمويل عجز الموازنة، وتوفير النقد الأجنبي للواردات من السلع الأساسية في الظروف الاستثنائية، وينظر إلى الاحتياطات الأجنبية أيضاً كأداة لإدارة الصدمات الاقتصادية.
وبينما تنعم الدول المتقدمة ببعض المناعة والقدرة على إقرار وصرف التحفيزات النقدية لإنقاذ اقتصاداتها من الركود والبطالة متسلحة بعملاتها القوية وإمكانية الطبع وخلق النقد، ترزح الدول الناشئة تحت عبء استنزاف الاحتياطات الأجنبية وعجز الموازنات وارتفاع نسب الاستدانة.
ضغوط وتحديات تواجه الدول العربية
تفرق المديرة التنفيذية للمحافظ الاستثمارية في شركة “أرقام كابيتال” من دبي، زينة رزق، بين دول مجلس التعاون الخليجي المصدرة للنفط والدول العربية المستوردة للنفط، وعلى الرغم من أن دول الخليج تعاني ضربة مزدوجة خلفتها تأثيرات انتشار كورونا على الاقتصاد، تزامناً مع تراجع دراماتيكي للطلب على النفط، فإن قدرة هذه الدول على التعافي وإدارة الأزمة تبقى أكبر من باقي الدول العربية التي تشهد ضعفاً في ميزانياتها وتراجعاً في قدرتها على تمويل وإنقاذ اقتصاداتها، وخصوصاً أن الدول الخليجية تتمتع باحتياطات مرتفعة راكمتها على مدى السنوات الماضية، إضافة إلى صناديق ثروات سيادية تعطيها القدرة على مواجهة الأزمات والعواصف.
فمع نهاية العام الماضي، بلغ الاحتياط من النقد الأجنبي لدى دول الخليج مجتمعة 620.5 مليار دولار بدأت بالتراجع والتآكل مع استمرار كارثة أسعار النفط وتداعيات وباء كورونا، فمنذ مارس (آذار) الماضي، بدأ عدم الاستقرار في أسواق النفط، فزاد العرض في الأسواق، وتراجع الطلب بشدة مع بدء انتشار الوباء وإقفال الاقتصادات تباعاً من الصين وصولاً إلى الشرق الأوسط وأوروبا.
ومع توقف عمل الاقتصاد، تبين رزق أن إيرادات الدول تراجعت بشكل كبير، والإنفاق، إما بقي على مستواه، وإما زاد بظل لجوء الحكومات إلى دعم القطاعات للحفاظ على الشركات والعمال، ما ترجم عجزاً في الميزانيات مع توقف التدفقات النقدية والاستثمارية الأجنبية، الأمر الذي أجبر الدول على تمويل حاجاتها من الاحتياطات.
اقرأ المزيد
دول الخليج تعزز ضبط الإنفاق لتجاوز أزمة كورونا وضبابية النفط
“موديز” تتوقع نمواً لإدارة الأصول بدول الخليج بعد كورونا
بايدن – هاريس بين الأمن القومي والتغير المناخي ودول الخليج: العودة للوسط نفطيا؟
الخليج الأفضل في مواجهة تداعيات كورونا
اتجهت دول مجلس التعاون الخليجي، بحسب زينة رزق، وفي مواجهة تراجع الاحتياطات النقدية وإيرادات النفط، إلى الاستدانة من الأسواق العالمية لتمويل حاجاتها الداخلية.
السعودية
استطاعت السعودية أن تجمع تمويلاً من الأسواق العالمية بلغ 10.75 مليار دولار، كما تبين رزق، فأكبر دول الخليج وأكبر مصدرة للنفط في العالم عانت تراجع احتياطاتها النقدية الأجنبية على الرغم من أنها بدأت عام 2020 ارتفاع للأصول الاحتياطة الأجنبية بنسبة 0.5 في المئة، فسجلت 501.8 مليار دولار من 499.5 مليار دولار نهاية عام 2019، ليبدأ التراجع، ولو المحدود، في الاحتياطات مع بداية ظهور تأثير تداعيات كورونا وانخفاض الطلب على النفط الذي دفع بالأسعار إلى مستويات متدنية ألقت بثقلها على الإيرادات بالعملات الأجنبية للسعودية.
وتسارعت وتيرة انخفاض الاحتياط الأجنبي بين شهري مارس ومايو (أيار)، بأسرع وتيرة في ما لا يقل عن عقدين ليتراجع الاحتياط إلى 447.4 مليار دولار، ثم يعود إلى الارتفاع مع تراجع وتيرة تفشي الفيروس إلى 448 مليار دولار بنهاية يوليو (تموز) 2020.
ولا تتوقع رزق أن تعود أسعار النفط إلى مستويات 70 دولاراً للبرميل، وإنما أسعار تتحرك حول مستوى 50 دولاراً بعد بدء اعتماد اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، فالنشاط الاقتصادي سيعود تدريجياً، ومعه الطلب، ما سيخفف من الضغوط على الاحتياطات، ولكن لن يكون كافياً لوقف الاستنزاف، نظراً إلى ارتفاع عجز الموازنات المتوقع تحقيقها خلال هذه الفترة، لذلك الإصلاحات المالية ضرورية لنمو أكثر استدامة.
أما صندوق النقد الدولي فقد أشار إلى انكماش الاقتصاد السعودي بنسبة 2.3 في المئة و4 في المئة في القطاع غير النفطي خلال العام الجاري.
الإمارات
استطاعت أبو ظبي أن تجمع القيمة الكبرى من أسواق الدين بلغت 12 مليار دولار، كما استطاعت دبي تأمين 2.75 مليار دولار، بالإضافة إلى بعض التوظيفات الخاصة الأخرى، أما أرقام صافي الاحتياط النقدي الأجنبي للمركزي الإماراتي فتبين أنه سجل 96.2 مليار دولار خلال أغسطس (آب) 2020 من مستوى قياسي بلغ 130 مليار دولار في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019.
وكان البنك المركزي الإماراتي قد أعلن في 14 مارس الماضي عن تدابير بقيمة 70 مليار دولار لضمان السيولة في النظام المصرفي، كي تستطيع البنوك دعم شركات القطاع الخاص والمشروعات الصغيرة والأفراد لمواجهة تداعيات كورونا.
ولا بد من الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي قد توقع انكماشاً بنحو 3.5 في المئة في اقتصاد الإمارات، بفعل تداعيات الوباء وإجراءات الوقاية والإغلاق الاقتصادي، إلى جانب انهيار أسعار النفط التي تمثل مصدراً رئيساً للدخل.
الكويت
خفضت وكالة “ستاندرد أند بورز” النظرة المستقبلية للكويت من مستقرة إلى سلبية، وتوقعت تخفيض التصنيف الائتماني السيادي للكويت على مدى العامين المقبلين إذا بقيت الترتيبات المؤسساتية في الدولة تمنع الحكومة من إيجاد حل مستديم طويل الأجل في شأن احتياجاتها التمويلية في ظل تراجع أسعار النفط وتداعيات تفشي كورونا، وكان الاحتياط النقدي للكويت قد سجل مستويات قياسية مرتفعة نهاية عام 2019 عند 40 مليار دولار من 37.3 مليار دولار نهاية عام 2018، وتمكنت الكويت، على الرغم من انهيار أسعار النفط، من تعزيز احتياطها بالعملات النقدية ليبلغ 48 مليار دولار نهاية سبتمبر (أيلول) من هذا العام .
وتوجهت الكويت لتحقيق ذلك إلى احتياط الأجيال المقبلة، إذ تستثمر البلاد من خلال الصندوق السيادي الكويتي بمختلف أنحاء العالم بأصول تقدر بقيمة 533.6 مليار دولار.
عمان والبحرين
تشكل سلطنة عمان والبحرين الحلقة الأضعف في دول مجلس التعاون الخليجي من حيث قدرة الدولتين على التصدي لتداعيات تفشي الوباء، بحسب زينة رزق، التي توقعت أن يسجل العجز في السلطنة مستوى 19 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
فالمخاطر في البحرين وسلطنة عمان أعلى من باقي دول الخليج، تتابع رزق، ولكن، على الرغم من ذلك، لا توجهات لربط عملات هذه الدول بالدولار تحت تأثير تراجع الاحتياطات النقدية بالعملات الأجنبية، فالبحرين تحظى بدعم السعودية، ولدى سلطنة عمان مقومات اقتصادية ومرونة تساعدها على اجتياز الأزمة، بالإضافة إلى مساعدة ممكنة كانت قد طلبتها من دول الخليج.
وتضيف رزق أنه سيكون من الأسهل على دول الخليج مساعدة سلطنة عمان عوضاً عن تركها تواجه مشاكل مرتبطة بالاحتياط النقدي وقدرتها على الاستمرار بربط علمتها بالدولار وتأثيرات ذلك على العملات الخليجية الأخرى.
وقدرت احتياطات عمان من النقد الأجنبي بقيمة 16.6 مليار دولار في نهاية العام الماضي، وذلك لا يشمل الاحتياط أو حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي، بل تضم فقط عملات أجنبية وذهباً، وعلى الرغم من الضغوط التي شهدها الاحتياط خلال العامين الماضيين، فإن السلطنة استطاعت رفع الاحتياط إلى 17.3 مليار دولار نهاية أغسطس في خطوة وصفها مسؤولون في البنك المركزي، بأنها مؤشر يعكس ثقة المستثمرين الدوليين في الاقتصاد المحلي.
أما احتياط البحرين بالعملات الأجنبية فشهد التراجع الأكبر خلال أشهر تفشي الفيروس ليتراجع بما يزيد على النصف بين فبراير (شباط) وأبريل (نيسان) من العام الحالي إلى 768.8 ملايين دولار من مستويات 3.5 مليار دولار بنهاية نوفمبر من العام الماضي، وهناك مستويات تضاعف من المخاطر التي تواجه البحرين التي أصبحت، تحت تأثير جائحة كورونا، الأكثر عرضة لمخاطر الاستدانة وانتشار البطالة من باقي دول الخليج.
وبحسب وكالة “موديز” للتصنيفات الائتمانية، ستحتاج البحرين لجذب رأسمال إضافي هذا العام بما في ذلك عبر الاقتراض للحفاظ على ربط عملتها بعد تراجع ضخم في احتياطات العملة الأجنبية بسبب انخفاض أسعار النفط، ونجحت البحرين بإعادة الارتفاع إلى الاحتياطات النقدية التي سجلت 1.8 مليار دولار بعد أن أصدرت سندات بقيمة مليار دولار.
ولمواجهة الأزمة التي طالت الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدول مجلس التعاون الخليجي، ترى رزق أن الإصلاحات تبقى أساساً للمواجهة، وفي هذا الإطار، فاجأت السعودية الأسواق عبر اعتمادها سلسلة إصلاحات أساسية ولتحقيق نمو اقتصادي سليم ومستديم.
الدول المستهلكة للنفط
تختلف الخسائر في الاحتياطات الأجنبية بين الدول العربية المستوردة للنفط باختلاف أوضاعها الاقتصادية.
مصر
تأثر الاقتصاد المصري بشدة من تراجع التحويلات النقدية بالعملات الأجنبية من الخارج، كما توقفت الحركة السياحية التي تعد مصدراً مهماً لتأمين العملات الأجنبية للخزانة المصرية، وبحسب أرقام المركزي المصري، عادت الاحتياطات الأجنبية إلى الارتفاع خلال شهر أكتوبر إلى مستوى 39.2 مليار دولار، مقارنة مع 38.4 مليار دولار نهاية سبتمبر السابق، وارتفاع طفيف يأتي على خلفية تراجع كبير للاحتياط النقدي الذي سجل مستوى قياسياً خلال شهر فبراير عند 45.5 مليار دولار، مع بدء أزمة كورونا وتداعيات تفشي الفيروس على الاقتصاد، التي ترافقت مع موجة نزوح للاستثمارات الأجنبية من الأسواق الناشئة، ومنها مصر، وتتمثل الأهمية الكبرى للاحتياطات النقدية المصرية في ضمان تمويل السلع الأساسية المستوردة من الخارج.
وتضيف رزق أن قرض صندوق النقد الدولي الذي حصلت عليه مصر ودفع إلى تحرير سعر صرف العملة وإنهاء الدعم الذي كان يستنزف الاحتياطات بالعملات الأجنبية، ساعد أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان في الحد من التداعيات عالية المخاطر على الاقتصاد المصري.
الأردن ولبنان
لم يسلم الأردن من تداعيات كورونا، والإقفالات المتكررة لاقتصاده، إذ ارتفعت مستويات البطالة إلى 23.9 في المئة في الربع الثالث من العام الجاري، بحسب رزق التي اعتبرت أن المملكة تستطيع إدارة الأزمة بشكل أفضل من جيرانها، فالأردن التزم منذ سنوات برنامجاً إصلاحياً مع صندوق النقد الدولي في مقابل برنامج مساعدات مالية وتقنية يساعده على احتواء التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، كما تستفيد البلاد من مساعدات عربية ودولية، واستطاعت أن تستدين من الأسواق العالمية في بداية العام وقبل اشتداد الأزمة، ما منحها هامشاً جيداً للتعامل مع الأزمة.
أما في لبنان، فترى رزق أن الوضع كارثي في ظل اتجاه لمزيد من استنزاف للاحتياط النقدي لمستويات خطرة جداً، ومن الواضح. تتابع رزق أن لبنان لن يحصل على أي مساعدة دولية في ظل تلكؤ الأطراف السياسية عن القيام بأي إصلاحات، ما ينذر بمزيد من السقوط للاقتصاد.