ما كان لهذه الصور المفجعة للاجئين السوريين أن نراها عبر مختلف وسائل الإعلام لو تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا بجدية مع المقترح التركي في إقامة منطقة آمنة وحظر طيران في شمالي سوريا لحماية المواطنين السوريين الهاربين من بطش الرئيس السوري وحلفائه. وكدأبه في المكاشفة والمصارحة اتهم رئيس التركي رجب طيب أردوغان كافة الدول الغربية بضلوعها في مأساة اللاجئين.
وفي مقابلة مع قناة “سي إن إن” الأمريكية أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن دولته استقبلت نحو مليوني لاجئ من سورية والعراق ضمن حدودها، مؤكداً تقاعس بعض الدول الغربية مثل اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وهنغاريا، والتي وعدت الحكومة التركية باستقبال اللاجئين، من دون أن تقوم بأي أفعال ملموسة في هذا المجال. ولفت الرئيس التركي إلى أن السبب الرئيس في المأساة التي يعيشها اللاجئون السوريون والعراقيون، هو بقاء العالم ساكناً تجاه ما يحدث في تلك الدول، لافتاً إلى عدم رغبة الغرب في القيام بأي عمليات في سورية، على الرغم من كون رأس النظام هناك ظالماً كبيراً. إلا أنهم دعموه على الدوام، ولم يفكروا في السبل التي من شأنها أن تسقطه.
وتابع الرئيس التركي أن بلاده أجرت العديد من المباحثات مع داعمي النظام السوري كروسيا وإيران، معرباً عن أسفه لمساعي هاتين الدول إلى تقديم الدعم اللامتناهي عسكرياً كان أم مادياً للحفاظ على الأسد في رأس النظام، إضافة إلى جهودهما في بحث سبل القضاء على قوات المعارضة السورية.
وبنفس المعنى قال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في اجتماع لوزراء مالية مجموعة العشرين والذي عقد في أنقرة قبل عدة أيام “حاولت اقناع العالم باقامة منطقة آمنة داخل سوريا لكبح تدفق اللاجئين من البلد الذي تمزقه الحرب لكن هذه الدعوات لم تلق آذانا صاغية”.
ومهما تحاول بعض التحليلات السياسية جاهدة أن تروج له بأن تركيا هي التي سهلت عمليات السفر للاجئين السوريين نحو أوروبا كونهم استقلوا السفن من الشواطىء التركية نحو دول أوروبا، وحملتها مسؤولية ما حدث. وقد بنت تلك التحليلات رؤيتها زاوية حادة ولم ترغب في توسيع رؤيتها لتكون منفرجة لتقول أن على الدول الغربية توفير الحماية اللازمة للاجئين السوريين لأن الغرب أيضا ساهمة في تعميق معاناتهم من خلال إطالة أمد جرائم الحرب التي يرتكبها بشار الأسد ضد مواطنيه، لأنها ترى في استمراها استمرار لتدفق السلاح، فتركيا كانت_ولاتزال_ من أكثر الدول في الشرق الأوسط من تضررت من الناحية الاقتصادية بتداعيات الربيع العربي ومع ذلك لم تغلق أبوابها للاجئين السوريين. فمجرد قدوم ألاف اللاجئين إلى الدول الأوروبية أعلنت أوروبا حالة الطوارىء!
ومع ذلك استطاعت الدولة التركية ممثلة برئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائها أحمد داود أوغلو أن تحرج الأوروبيين، حينما تورط الساسة الأوروبيين في تصريحات تنم عن عنصرية دينية، حينما قال مسؤولون في بلجيكا وسلوفاكيا والمجر إنهم لن يستقبلوا غير اللاجئين المسيحيين، وإنهم يرفضون المسلمين، وزعم رئيس وزراء المجر أن “تدفق اللاجئين على أوروبا يهدد الجذور المسيحية”.
وذهب “فيكتور أوربان” رئيس وزراء المجر، المعروف بمواقفه المتطرفة إلى القول إن “غالبية هؤلاء اللاجئين من غير المسيحين، وهم يمثلون ثقافة مختلفة في العمق، وهي مسألة تمس جذور الهوية الأوروبية”.
وكشف إعلان الحكومة البلجيكية في آب/ أغسطس الماضي أنها أجلت 244 سوريًا من المسيحيين السوريين الذين يقطنون في حلب إلى بلجيكا، الانتقائية التي تمارسها الدول الغربية في اختيار اللاجئين، ونوعية من تستضيفهم؛ مما يعني أن هناك تفرقة دينية في “الإجلاء” من المناطق المنكوبة، رغم أنها مشكلة إنسانية، وفرز في منح اللجوء الغربي للسوريين على أساس الدين.
وبعد قرار بلجيكا استقبال اللاجئين السوريين المسيحيين فقط، الذين أشرفت على ترحيلهم من حلب، جاء قرار سلوفاكيا، التي أعلنت هي الأخرى، عن أنها لن تستقبل سوى اللاجئين السوريين المسيحيين على أراضيها.
وبرّر وزير الداخلية السلوفاكي “إيفان متيك” ذلك بقوله: إن “بلاده لن تقبل المهاجرين المسلمين؛ لأنهم لن يشعروا بالاستقرار، وبأنهم في وطنهم”، وزعم أن ذلك القرار جاء؛ من أجل الحفاظ على ترابط المجتمع.
ويكشف الموقف الأوروبي عن تمسك الأوروبيين بأن “أوروبا قارة مسيحية”، وهو السبب الجوهري والرئيس الذي كان وراء عدم قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي فتحت عضوية الاتحاد لدول أوروبا الشرقية. ما تبرير دول الإتحاد الأوروبي لذلك؟
ينظر الى كل ما هو اوروبي غير مسيحي على أنه “آخر”، لا يعترف به ولا يتعامل معه الا كموضوع له، يمارس عليه هيمنته الاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد ساهمت نهاية الحرب الباردة بصياغة تلك الافكار، وذلك حينما تبنى الغرب بشكل عام والاوروبي بشكل خاص خطابا ثقافيا استعدائيا، وبما أن اوروبا جزء من الغرب المسيحي فقد تبنى اتحادها ذلك الخطاب.
فالاتحاد ينظر الى انتشار الاسلام في دوله، حيث وصل عدد مسلمي دول الاتحاد لأكثر من خمسة عشر مليونا، وهذا العدد مرشح للتزايد في السنوات القادمة، وذلك مرده لارتفاع معدلات المواليد المسلمين في اوروبا مقارنة بالمواطنين الاوروبيين، فضلا عن استمرار الهجرة في صفوف المسلمين الى اوروبا، وفي حال انضمام تركيا اليه سنضيف للعدد السالف والمرشح للتزايد سبعين مليون تركي، وسيشجع اكتسابها- على فرض- عضوية الاتحاد، الدول الاوروبية الاسلامية في البلقان (البانيا، كوسوفو، البوسنة والهرسك)، لاكتسابها أيضا، الخطر القادم الذي سيهدد مستقبل الحضارة الغربية.
فالاتحاد لا يرى في ثقافة مواطنيه المسلمين، والدول الاوروبية المسلمة المرشحة لانضمامه، على أنها ثقافة من الممكن التعايش معها وان اختلف معها، بل يرون فيها تهديدا لوجــــودهم، فهي في مدركهم ثقافة مهــــددة للامن والاستقرار في اوروبا، وهذا ما عبر عنه الاعلام الغربي حينما تبــــــنى مقاربـــــة غير منــــــطقية بين المسجد والبندقية الرشاشة، ويـــــرى في مسلمي اوروبا قنبلة موقوتة.
أما على المستوى السياسي فقد كانت المانيا في طليعة الدول الاوروبية التي صرحت على الملأ تبنيها ذلك الخطاب الثقافي، حينما وصف مستشارها الأسبق هلمت كول الاتحاد بأنه ‘ناد مسيحي’، وتشاطرها فرنسا نفس الموقف وان كان بنسب مختلفة، لذلك تسعيان، لجعل الاتحاد بالفعل ناديا مسيحيا بكل تنويعاته المذهبية الكاثـــــوليكية والبروتســــتاتية والسلـــافية واللاتينية والارثذوكسية، فهو اتـــــحاد مفتوح العضوية على الهوية المسيــــحية الاوروبـــية، ومغلق على ما عداها من الهويات.
فتركيا في الذاكرة التاريخية الثقافية الاوروبية وريثة الدولة العثمانية التي هي بنظرهم أسقطت العاصمة التاريخية للمسيحية وهي القسطنطينية (اسطنبول اليوم) عام 1453، وهي بنظرهم أيضا على الرغم من قساوة المنهج العلماني للدولة التركية، فمازال المجتمع التركي متمسكا بهويته الاسلامية، هذا المجتمع الذي صاغ التحولات الداخلية والخارجية فيها من خلال انتخابه حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب اردوغان، المدافعة عن قضايا الامة الاسلامية، وهذا ما لا يروق لدول الاتحاد الاوروبي. التي ترى فيه انبعاث للعثمانية وهذا تصور غير دقيق، وبناء على ما تقدم ستعمل ألمانيا وفرنسا على توسيع دائرة الدول الاوروبية الرافضة لانضمام تركيا للاتحــــاد الاوروبي، وما شروط كوبنهاجن الليبرالية التي وضعت من قبل مجلس الاتحاد الاوروبي في عام 1993، من أجل كسب عضويته، سيكون غاية في التعقيد اذا تعلق الامر بتركيا، وعلى فرض التزمت بها، سيخرج المجلس عليها بمعايير جديدة كمعيار باريس أو روما، برلين، وهكذا دواليك.
وما الشعار الذي يرفعه الاتحاد أيضا (متحدون في التنوع)، فهذا منطق التنوع السلبي مقتصرا على الهوية المسيحية. من هنا نستطيع أن نفهم الاسباب التي منعت تركيا في الماضي وربما في المستقبل من الانضمام الى الاتحاد لذا ‘سنكون مخطئين إذا نحن اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية الدينية التي كانت تواجه فلاسفة التاريخ والمستشرقين وأنه غرب علماني خالص، عقلاني برغماتي لاغير’ هذا ما عبر عنه المفكر الراحل الدكتور محمد عابد الجابري. خلاصة القول ان اتحاد تحكم عضويته أيديولوجيه دينية، وقبول عضو من عدمه يتوقف على مدى تماهيه معها، لاتدع مجالا للشك ان انضمام أي هوية أخرى غير المسيحية وأن كانت اوروبية الجغرافيا ستكون صعبة إن لم تكن مستحيلة. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن ما ينسحب على تركيا من مسألة إنضمامها للإتحاد ينسحب أيضا على قبول الدول الأوروبية اللاجئين السوريين على أراضيها. فالايديولوجية مازالت تفعل فعلها في عالم السياسة، وليس صحيحا انتهت بنهاية الحرب الباردة ، فهي تجدد نفسها من اقتصادية اجتماعية الى دينية.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية