خلال الحقبة الممتدة لعقود قبل ثورات الربيع العربي، كانت معظم أو جميع الدول العربية تحكمها أنظمة استبدادية لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة إلا في نطاق الأسر الحاكمة أو الحزب الواحد، وهي في غالبها أنظمة عسكرية.
ولا يزال مصطلح الربيع العربي متداولا على نطاق واسع في أدبيات القوى السياسية العربية ووسائل الإعلام العربية والعالمية، على الرغم من أن تلك الثورات لم تنجز أهدافها.
فهي لم تحقق الديمقراطية ولم ترس أسس الانتقال السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، باستثناء تونس، التي تدفع أثمانا باهظة جراء تدخلات خارجية تستهدف إجهاض التجربة الوحيدة التي اقتربت ثورتها من تحقيق أهدافها.
وأنتجت الحركات الاحتجاجية، أو ثورات الربيع العربي، مكاسب اجتماعية وسياسية واقتصادية في دول عدة، إلى جانب عنف وصراعات داخلية وتهجير قسري ونزوح جماعي وتدمير لمدن وبنية تحتية، وغير ذلك.
وخلال موجتي الربيع العربي، الأولى بين عامي 2010 و2013 والثانية في 2018 و2019، شهدت معظم الدول العربية حراكا جماهيريا لم يؤد إلى تغيير أنظمتها، مثل لبنان والعراق منذ عام 2018، والمغرب والأردن وموريتانيا وسلطنة عمان.
وشهدت الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن تغييرا في قياداتها بدرجات متفاوتة، حيث انتقلت السلطة من الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح، إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، قبل أن تسيطر جماعة “أنصار الله” (الحوثي) على العاصمة صنعاء في 2014 ويدخل البلد في حرب أهلية لا تزال مستعصية على الحل؛ بسبب تدخلات إقليمية ودولية.
وقد لا يكون إحراق شاب تونسي (محمد البوعزيزي) نفسه، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، سوى حادثة نقلت مشهد التذمر ورفض الاستبداد وتدهور الأوضاع المعيشية إلى صدارة اهتمام المواطن التونسي، ليقود عبر نقابات مهنية حراكا شعبيا أدى إلى التغيير والتأسيس لحقبة الثورات الشعبية، أو ثورات الربيع العربي.
لم يكن العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد في انفجار الغضب الشعبي ضد الأنظمة الاستبدادية، بل كانت هناك حاجة أيضا إلى احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير والكفاح من أجل الكرامة.
كما لعب العامل الطائفي دورا مهما في حركات احتجاجية مناهضة للأنظمة شهدتها البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، إضافة إلى اليمن وسوريا.
ويرى مراقبون أن الأوضاع الاجتماعية والطبيعة الاستبدادية لأنظمة الحكم ساهمت إلى حد بعيد في انتشار الحراك الجماهيري إلى بلدان أخرى انطلاقا من تونس في ما يُعرف بالموجة الأولى للربيع العربي.
وانتهت تلك الموجة بحركة احتجاجية شهدتها ست محافظات عراقية طيلة عام 2012 وبداية 2013، يغلب عليها التكوين الطائفي بأكثرية عربية سُنية فشلت في تحقيق أهدافها.
وغلب الاتجاه الديني على ما سواه من شعارات ثورات الربيع العربي، في دلالة على أن حركات الإسلام السياسي عموما هي المحرك الفاعل لتوجيه مسارات الاحتجاجات وتحديد توجهاتها وأهدافها.
ويشكل هذا، بحسب متابعين، تهديدا جديا للأنظمة الاستبدادية والأنظمة التي تعتمد غالبا التوريث في انتقال السلطة، ما دفعها إلى فعل ما أمكن لإجهاض تلك الثورات، عبر قوى الثورة المضادة، التي قادتها دولة الإمارات بالدرجة الأولى، بدعم القوى العسكرية.
ودعمت “الثورة المضادة” الانقلاب العسكري في مصر، وقوات اللواء المتمرد خليفة حفتر في ليبيا، والمجلس الانتقالي العسكري في السودان، ونظام بشار الأسد في سوريا، وغيرهم من “أعداء” ثورات الربيع العربي.
وبوضوح، ساندت السعودية الثورة المضادة، بقيادة الإمارات، في الحالة المصرية، عبر دعم انقلاب وزير الدفاع المصري، عبد الفتاح السيسي (الرئيس الحالي)، في 3 يوليو/ تموز 2013، وعزل الرئيس المنتخب، محمد مرسي.
لكن الثورة المضادة، بقيادة الإمارات، والمساندة السعودية قد لا تكون إلا عاملا مساعدا فقط بين عوامل عديدة تسببت بإفشال ثورات الربيع العربي في سوريا واليمن، وقبلهما ليبيا، خشية انتقال الحراك المطالب بالتغيير إلى البلدين، الإمارات والسعودية.
ويُنظر إلى موقف الجيش والقوات الأمنية على أنه العامل الحاسم في قيادة دول الربيع العربي إلى الأمن والاستقرار، كما في الحالتين التونسية والمصرية حتى عزل الرئيس مرسي، أو الفوضى والصراع الداخلي كما في ليبيا وسوريا واليمن.
وإذا كانت المشاكل الاقتصادية تقف خلف معظم ما جرى في دول “الثورات”، مثل تونس، فإن هذه الدول لا تزال تعاني من مشاكل اقتصادية زادت حدتها في السنوات الأخيرة بشكل أكبر مما كانت عليه قبل “الثورات”.
وبالرغم من الدعم الذي قدمته السعودية والإمارات بعشرات المليارات من الدولارات، إلا أن نظام السيسي، الممثل للسلطة “العسكرية”، فشل في استعادة استقرار مصر، التي لا تزال تعاني من تبعات الحرب على “الإرهاب” في شبه جزيرة سيناء (شمال شرق)، مع تراجع واضح في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، وحقوق الإنسان.
راهنت دول غربية على إمكانية إحراز تقدم كبير في حقوق الإنسان وحرية التعبير بدول الثورات بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
كما راهنت على أن هذه “الثورات” هي امتداد لانتفاضات دول أوروبا الشرقية، التي أطاحت بأنظمة الحكم الدكتاتورية الحليفة للاتحاد السوفيتي السابق، وانتقالها إلى النظام الديمقراطي.
وفي ظل الأجواء التي تسود دول “الثورات” العربية، فإن الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب والسنوات الأربع الأخيرة من عهد باراك أوباما، لا ترى ما يضير في عودة هذه البلدان إلى أنظمة ما قبل 2011 أو حتى إعادة إنتاجها، كما في ليبيا وسوريا مثلا.
تعوّل الكثير من النخب السياسية العربية على الولايات المتحدة لإرساء مبادئ الديمقراطية في المنطقة.
لكن واشنطن لا تبدو مكترثة بالديمقراطيات أو حرية التعبير والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها الحيوية.
بل إن واشنطن قد تجد في دعم الأنظمة الاستبدادية، وحتى إعادة إنتاج البعض منها، ضامنا لمصالحها، التي يمكن أن تتعرض لأخطار حقيقية إذا وصلت قوى “التغيير” الحقيقية إلى مراكز صنع القرار، وهي القوى المعبرة عن طموحات الشعوب العربية والممثلة لها.
قد تكون تونس هي الدولة الوحيدة التي تقدمت خطوات حقيقية نحو الديمقراطية، بعد أن تراجعت مصر بانقلاب عسكري عام 2013 أطاح بالرئيس مرسي بعد عام واحد من فترته الرئاسية.
في حين انزلق اليمن وسوريا وليبيا إلى صراعات داخلية طويلة الأمد، وأصبحت الدول الثلاث ساحة لتصفية حسابات الدول الإقليمية ودول العالم الأخرى.
وفي قراءة لموجتي الربيع العربي، فشلت ثورات الربيع في إزاحة أنظمة حكم استبدادية في البحرين وسلطنة عمان والمغرب والأردن والعراق ولبنان، على الرغم من إسقاط حكومتي العراق ولبنان باستقالة رئيسيهما، عام 2019.
لكن تلك الثورات نجحت في تغيير الأنظمة الحاكمة في كل من السودان والجزائر، وقبلهما في تونس ومصر وليبيا واليمن، بينما تشذ الحالة السورية عن مثيلاتها في الموجتين.
(الأناضول)