مع انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى في سورية، واستقرار خطوط التماس (على الرغم من احتمال حصول معركة في إدلب)، تجد أطراف الأزمة في سورية نفسها بعد عقد من الصراع أمام طريق مسدود. النظام الذي يشعر بأنه انتصر، بمعيار النصر الوحيد لديه، وهو استمراره وبقاؤه، يجد نفسه من جهة، وهو يحكم على خراب، معزولا، ومحاصرا بعقوباتٍ دوليةٍ قاسيةٍ، تجعله عاجزا عن تأمين أبسط احتياجات السكان الذين يحكمهم، من غذاء ودواء ووقود وكهرباء وغيرها من مقومات الحياة الأساسية. ومن جهة أخرى، تبقى مساحات واسعة من البلاد خارجة عن سيطرته في الشمال والجنوب، وفي الشرق خصوصا، حيث حقول الغاز والنفط والقمح، وهو يعرف أنه لا يستطيع الصمود طويلا بدونها، كما لا يستطيع استعادتها، في وجود قوات أميركية وتركية تسيطر عليها.
من جانب آخر، دخلت المعارضة مرحلة انعدام الوزن، مع خسارتها أكثر أوراق القوة التي كانت يوما تمتلكها، وفقدانها كليا تقريبا هامش الاستقلال المحدود الذي كانت تتمتع به أمام الدول والجهات التي تموّلها، فأخذت انقساماتها تتزايد، على وقع الهزيمة والفشل وتبادل الاتهامات بالمسؤولية، وتحوّل جزء كبير من نشاطها السياسي إلى نقاشات سفسطائية لا تنتهي على وسائط التواصل الاجتماعي، ازدادت حدّتها، أخيرا، نظرا إلى سهولة الاتصال وعقد الاجتماعات الافتراضية التي وفرتها تقنيات وبرامج ازدهرت في ظل وباء كورونا. وقد أخذت المعارضة، كما النظام، تفقد مصادر شرعيتها المحلية، تستند بدلا من ذلك، في بقائها واستمرارها، إلى إرادة دولية وتحالفاتها الخارجية، ما عمّق افتراقها عن الشارع الذي تدّعي تمثيله. هذا الشارع الذي يشعر بالخيانة والخذلان، بعد كل التضحيات التي قدّمها، باتت معركته، هو الآخر، أصعب من أي وقت مضى، اذ أصبح جزءٌ منه ينادي بإسقاط النظام والمعارضة معا، بعد أن كانت معركته محصورة بالنظام، وهو لا يملك أي وسيلة لتحقيق ذلك. ودوليا، تبدو سورية آخر قضية يمكن أن يفكر بها العالم، المنكوب اليوم بأزمة كورونا وتداعياتها التي طاولت كل شيء تقريبا.
إلى أين تتجه الأمور أمام هذا الواقع الذي لا تنفع أي محاولة لتجميله؟ تبدو استراتيجية النظام واضحة، وهو لا يبذل جهدا في إخفائها، ففيما هو يلهي المعارضة بلعبة اللجنة الدستورية، ويُغرقها في متاهة التفاصيل التي يتقنها، يحضّر بهدوء لانتخاباتٍ رئاسيةٍ يحين أجلها خلال ستة أشهر، تماما كما فعل في الانتخابات البرلمانية الصيف الماضي، وهو يلقى في ذلك دعم حلفائه. وإذا كان الموقف الإيراني غير مهم هنا، باعتباره أكثر تطرّفا من موقف النظام نفسه، خصوصا في سلوك مليشياته على الأرض، ورفضها إعادة بعض المهجّرين إلى قراهم وبلداتهم، فإن الموقف الروسي الذي طرأ عليه تغير عميق يعدّ مركزيا، وخصوصا أنه صاحب فكرة مؤتمر سوتشي واللجنة الدستورية. ففي زيارته إلى دمشق في سبتمبر/ أيلول الماضي، فجر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قنبلة في وجه الجميع، عندما قال إن عمل اللجنة الدستورية غير مرتبط بإجراء الانتخابات الرئاسية، وإنه ليس هناك حد زمني لإنهاء أعمالها. ويراهن النظام على تغير الرياح لمصلحته مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد بايدن، حيث يتوقع أن يصبح، كما في عهد إدارة أوباما، المستفيد الأكبر في حال حصول تقاربٍ بين واشنطن وطهران.
ما هي استراتيجية المعارضة في المقابل؟ لا يجافي المرء الحقيقة إذا قال إنه لا توجد لديها أي استراتيجية، خلا استمرار الرهان على وهم أن تنتج اللجنة الدستورية توافقا حول دستور يسمح لها بالقول إن انتقالا سياسيا يحصل من خلاله ويتجسّد بمشاركتها في السلطة التي ستنتج عنه، علما أن الرهان هنا يرتبط كليا بقدرة العقوبات الأميركية على إحداث تغييرٍ في سلوك النظام على هذا الصعيد.
بالنتيجة، النظام ذاهب نحو انتخابات شبيهة بانتخابات 2014 يدّعي من خلالها شرعية الاستمرار في حكم أنقاض دولةٍ ومجتمع. المعارضة مستمرة في لعبة اللجنة الدستورية، وتأمل من خلالها في تغيير النظام. العالم مستمر في تجاهل الموضوع السوري، والاعتياد على العيش مع دولة فاشلة أخرى في المنطقة. أما سورية فسوف تستمر في التحلل، حتى تظهر نخبة سورية مسؤولة في المعسكرين قادرة على التعاون لاجتراح خطةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
مروان قبلان
العربي الجديد