قضية “النفايات الإيطالية”.. هل بدأت ثورة تونس على الفساد؟

قضية “النفايات الإيطالية”.. هل بدأت ثورة تونس على الفساد؟

في خطوة تونسية وصفت بالقوية، امتدت الحرب على الفساد داخل أجهزة الدولة إلى أعلى السلطات، إذ تمت الأحد إقالة وزير البيئة والشؤون المحلية، مصطفى العروي، ثم توقيفه في اليوم نفسه على ذمة التحقيق في قضية “النفايات الإيطالية”.
مقاومة الفساد هو شعار رفعته كل الحكومات بعد ثورة عام 2011، لكنها المرة الأولى التي يتم فيها توقيف وزير، بشبهة الفساد.

من إيطاليا إلى سوسة
في 26 مايو/ أيار الماضي، وصلت ميناء سوسة شرقي تونس أول شحنة من النفايات الإيطالية في نحو 70 حاوية، على أنها نفايات بلاستيكية لإعادة التدوير، وفق الجمارك التونسية.
وأضافت الجمارك أن وزارة البيئة أفادتها بموافقتها على دخول البضاعة إلى تونس، في 13 يونيو/ حزيران الماضي.
وتابعت أنه بتاريخ 24 يونيو، أفاد تقرير أحد ضباطها بأن “طبيعة النفايات البلاستيكية المورّدة قد لا تتطابق مع ما تمّ التصريح به على أنها نفايات بلاستيكية”.
ووفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن 72 حاوية من النفايات الإيطالية دخلت عبر سوسة بهدف دفنها، ضمن صفقة أبرمتها شركة حاصلة على رخصة تخولها فرز النفايات البلاستيكية وإعادة تدويرها.
وأفاد المنتدى، عبر بيان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بأن الحاويات لا تتضمن نفايات بلاستيكية، بل “نفايات منزلية” يُمنع توريدها، حسب القانون التونسي رقم 41 لسنة 1996، المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها وإزالتها، واتفاقية “بازل”، التي تحظر تداول المواد والنفايات الخطرة.

البرلمان يتقصى
إثر بث قناة تونسية خاصة، بداية نوفمبر، تسجيلا مصورا حول خطورة تلك النفايات، تحركت لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام بمجلس “نواب الشعب” (البرلمان) للتقصي حول الموضوع.
وقال رئيس اللجنة، بدر الدين القمودي: “كنا في عطلة برلمانية، ولما عدنا تزامن ذلك مع طرح الملف في برنامج تلفزيوني، فتعهدنا به”.
وخلال جلسة مساءلة أمام اللجنة، في 9 نوفمبر، قال العروي، وزير البيئة والشؤون المحلية، إن القضاء فتح تحقيقا في جلب شركة محلية نفايات إيطالية سامة، و”سيتم إعادتها إلى بلد المصدر”.
وأضاف العروي أن قاضيا توصل إلى وثائق تثبت وجود إخلالات تؤدي إلى العقاب الجزائي.

وزير في دوامة
الملف شهد، الأحد، تطورات متسارعة أدت إلى توقيف العروي، لوجود شبهات خطيرة حول علاقته بالموضوع.
وقبل التوقيف، أقال رئيس الحكومة، هشام المشيشي، العروي من منصبه، من دون إعلان سبب، مع تكليف وزير التجهيز والإسكان، كمال الدوخ، بالإشراف على الوزارة بالإنابة.
وقال مصدر مطلع، طلب عدم نشر اسمه، إن “تصرفات مستغربة من قبل الوزير العروي أدت إلى هذه القرارات”.
وتابع: “وسط الأسبوع الماضي، خضع الوزير لتحقيق في مكتبه حول النفايات الإيطالية“.
وأردف: “لما وجهت له الدعوة للاستماع له في القضية، بمقر فرقة أمنية بالعاصمة تونس، أرسل الوزير شهادة طبية تفيد أنه مريض، إلا أن الأمنيين اكتشفوا أنها غير حقيقية، ما دفع رئيس الحكومة إلى إقالته، ليتيسر لقوات الأمن إيقافه”.
وقال جابر الغنيمي، المتحدث باسم محكمة مدينة سوسة الابتدائية، الثلاثاء، إن العروي وآخرون عُرضوا على حاكم التحقيق، وقرر القاضي حبس 8 متهمين، بينهم العروي، على ذمة التحقيق.
وأضاف أن عدد المتهمين في القضية بلغ 23، بينهم مسؤولون بارزون، حيث استمعت المحكمة لأقوال 10 منهم (غير موقوفين)، وتم إطلاق سراح 4 آخرين، فيما لاذ بالفرار متهم واحد، في إشارة إلى صاحب الشركة التونسية مستوردة النفايات.

فساد من الحجم الثقيل
الباحث في علم الاجتماع، هشام الحاجي، قال إنها “قضية فساد من الحجم الثقيل”.
وأضاف أن “المنعرج الذي أخذته القضية، من خلال التعهد الجدي للقضاء وتوجيه الاتهام إلى مسؤولين كبار في الحكومة، هو رسالة إيجابية للشعب أولا بأن القضاء يخطو خطوات هامة ليتحوّل إلى سلطة لا تخضع لتوجيهات ولا إملاءات ولا ضغوط”.
واعتبر أن “هذا الأمر مهم، إذ لا يمكن إطلاقا النجاح في الحرب ضد الفساد بقضاء تحوم حوله شكوك الفساد وعدم الاستقلالية والخضوع للحسابات السياسية، وهنا يجب أن نحيي القضاة الذين تعهدوا بالملف”.
وثانيا، اعتبر الحاجي أن “هذا الإنجاز سيُسجَل من إيجابيات مرحلة المشيشي، فليس من السهل في تونس مهاجمة الحيتان الكبيرة”.
فيما قال القمودي: “أتوقع أن القضاء لم يُقدم على خطوة إيقاف الوزير إلا بتوفر أدلة تدينه”.
وتابع: “لا يمكن إنكار أن جزءا من الدولة متورط في القضية وزير سابق (للبيئة- شكري بن حسن) ووزير حالي (العروي) وحتى بعض موظفي الإدارة تورطوا، وهذا يمس مصداقية الدولة”.
لكنه استدرك: “السؤال يبقى هو: هل الأمر يقتصر على أشخاص أم مرتبط بمنظومة؟”.

نقاط استفهام
“مثير للجدل”، هكذا وصف القمودي “ملف النفايات منذ 2005″، خلال حكم الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي.
وتابع: “هناك صفقات عليها نقاط استفهام، وطبيعي عند إثارة مثل هذا الملف أن يشمل شخصيات في الحكم وأخرى سابقة، وسير الأبحاث الأمنية والقضائية هو الذي أدى إلى استدعاء هؤلاء”.
متفقا مع القمودي، قال الحاجي إن “هذه القضية تكشف أن هناك قطاعات ظلت بعيدة عن المتابعة، لاعتقاد البعض بأنها تخلو من الرهانات (المفاسد) المالية، لكن تلك القطاعات فيها الكثير من أسباب ومكامن ومجالات الفساد، وبينها قطاع البيئة”.
واعتبر أن قطاع البيئة “يحتاج لثورة حقيقية في مستوى المقاربة والتشريعات، فالدول المتقدمة هي الدول التي نجحت في إحداث انتقال بيئي يمر عبر مقاربة جديدة لإعادة التدوير وتجاوز الحلول السهلة”.
وأكد الحاجي أن “هذا الملف من الملفات الشائكة، للأسف نحن نتخبط، عوض أن نستغل مواطن القوة في مجال البيئة لخلق الثروة والتشغيل (توفير فرص عمل) والحد من التبعية الطاقية”.
وزاد بقوله: “نتخبط لأن هذا المجال فيه الكثير من الفساد المعروف لدى الكثير من التونسيين”.
واستطرد: “ما يلفت الانتباه هو أننا نستورد نفايات لرسكلتها (إعادة تدويرها) في حين كان من المفروض غلق هذا الملف، فهو من مداخل الفساد والإساءة للبيئة”.

شظايا سياسية
فيما يتعلق بالتداعيات السياسية للقضية، اعتبر الحاجي أن “أقلها تحويرا (تعديلا) وزاريا.. وطريقة تناول الحكومة جيدة في تناول الموضوع، فهي تتعامل بشفافية مع الملف”.
ودعا إلى “إبعاد كل من ثبت تورطه من الحكومة، ووضعه على ذمة القضاء، وهو الذي يقرر”.
لكن الحاجي لا يرى في الوقت نفسه “أي داعي إلى تحويل ذلك إلى ورقة ضغط على المشيشي كي يستقيل، لأنه أولا يجب التشجيع على ممارسة الشفافية”.
وتابع: “لا ننسى أن هذه الحكومة لم يشكلها المشيشي وحده، وهناك حرج أخلاقي وسياسي لرئيس الدولة (قيس سعيّد)، لأنه هو الذي فرض بشكل قوي تعيين وزير البيئة (العروي)، خاصة وأنه يرفع شعار محاربة الفساد، وهذا يعني أنه لا يحسن الاختيار، بل ووضع نفسه في دائرة الشكوك والشبهات”.
وقال القمودي: “كلجنة برلمانية نحاول عدم تسييس الملف، اللجنة فيها 22 عضوا يمثلون كل الحساسيات في البرلمان.. وزير البيئة تمت مساءلته أمام اللجنة ورئيس الحكومة سيُساءَل في أول فرصة”.
وأردف: “التحوير الوزاري حاصل لا محالة، طالما وزير في السجن، أتوقع تغييرات على الأقل في وزارتين، هما الثقافة والشؤون المحلية.”
وأقال المشيشي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وزير الثقافة، وليد الزيدي، من منصبه، لتمسكه باستمرار تنظيم فعاليات ثقافية، في رفض لقرار رئيس الحكومة حظر تلك الأنشطة لمنع تفشي فيروس “كورونا”.

(الأناضول)