في الخروج المصري إلي الإقليم فرص مفتوحة علي أدوار ممكنة، ومخاطر كامنة في تورطات محتملة. لا يمكن أن تكون الحسابات دقيقة دون أن يمتد البصر فوق الجغرافيا السياسية المشتعلة بالنيران علي اللاعبين الرئيسيين.
وفي كل حساب، نجد أن إيران لاعب رئيسي لا يمكن تجاهله. للحديث معه ضروراته الملحة، الآن وليس غدا. هناك طرف خيط في الحديث، لكنه يتقطع كلما امتد، ويتوقف في الخطوط الخلفية دون أن يخرج إلي العلن الدبلوماسي. ورغم أن دول الخليج جميعها تربطها علاقات دبلوماسية كاملة مع طهران، فإنها تلح علي ألا تكون للقاهرة علاقات مماثلة، وهذا يستحق المراجعة بجدية.
فإذا لم تتحرك مصر الآن، وتزيح الحواجز، وتعلن عن حضورها، وتتحدث مع الأطراف الرئيسية الأخري، أيا كانت حدة الخلافات، فما معني أي تحرك تال بعد أن تأخذ الأزمات مدي قد يقوض الإقليم كله؟.
طلب التوازن الإقليمي طبيعي ومشروع، غير أن تكبيل الدبلوماسية المصرية قضية أخري تقوض كل فرصة في اكتساب أية أدوار إقليمية محتملة.
أولا- توغل إيران والفراغ الاستراتيجي:
هناك أخطاء فادحة توغلت فيها إيران بطموح زائد يحرض عليه الفراغ الاستراتيجي في الإقليم، لكن هذه مسئوليتنا قبل غيرنا.
انسحبت القاهرة من الإقليم وقضاياه، إثر معاهدة السلام مع إسرائيل عام (1979)، وهو العام الذي خرجت فيه إيران بعد ثورتها “الإسلامية” إلي مسارحه بخطاب مغاير لما كان يتبناه الشاه محمد رضا بهلوي. وعندما تتخلي عن أدوارك، فإن هناك من يتقدم لملء الفراغ. والحديث مع إيران لا يعني إغفال الأزمات والفجوات، فهذا موضوع أي حديث جدي علي قاعدة الندية الكاملة، والمصالح المشتركة. والسؤال الآن: لماذا الحديث معها عاجل وضروري؟
هناك – أولا – اتفاق إطار سياسي بشأن المشروع النووي الإيراني، جري توقيعه في “لوزان” السويسرية نهاية مارس الماضي، وكان ينتظر – عند كتابه هذا المقال – حسما نهائيا قد ترفع بمقتضاة العقوبات الاقتصادية والمالية الدولية عن طهران، وتترتب عليه حقائق قوة جديدة علي شاطئ الخليج، وفي الإقليم كله.
رغم تطمينات الرئيس الأمريكي باراك أوباما لقادة الخليج في قمة “كامب ديفيد”، فإن أحدا ليس بوسعه أن يطمئن. القمة المثيرة للجدل أسفرت عن صفقات سلاح باهظة لنظم دفاعية، دون أن تكون الولايات المتحدة مستعدة أن تخفض من رهاناتها علي دور إيراني جديد. كل ما طلبته واشنطن من طهران أن تحاول بناء إجراءات ثقة مع الخليج القلق، ولا شيء أكثر من ذلك. وبمعني آخر، استثمرت الولايات المتحدة في القلق الخليجي دون أن تطمئنه.
وهناك – ثانيا – الأزمة اليمنية المتصاعدة علي حدود السعودية بالقرب من مضيق باب المندب الذي يدخل مباشرة في استراتيجية البحر الأحمر من منظور الأمن القومي المصري.
بالمعنيين السياسي والعسكري، تقف مصر في الخندق ذاته مع دول الخليج، بينما إيران تمول، وتسلح، وتدرب “الحوثيين”، وتكتسب علي الأرض نفوذا لم يكن لها من قبل. والحسم العسكري يبدو شبه مستحيل، والحل السياسي يبدو مراوغا. وقد كان لافتا نفي الخارجية المصرية أن تكون التقت حوثيين جاءوا إلي القاهرة ضمن وفود يمنية تبحث عن مخارج للأزمة، وهو نفي يضعف، ولا يقوي.
فالحوثيون طرف في الأزمة، وطرف في الحل. وأيا كانت السيناريوهات المحتملة، فإن فكرة الاجتثاث مستحيلة.
ورغم أن القاهرة تتمتع بقبول الأطراف اليمنية أكثر من أي طرف إقليمي آخر، وهذا يعود للدور الذي لعبته في الخروج باليمن من ظلمات القرون الوسطي إلي مشارف العصور الحديثة في حقبة الستينيات، فإنها تتعرض لما يشبه الإقصاء في أية حسابات سياسية لأية تسويات محتملة.
وهناك – ثالثا – الأزمة السورية التي أخذت منحي خطيرا بسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” علي نحو نصف الأراضي السورية، بينما يتمركز منافسوه من التنظيمات الإسلامية الأخري كـ”جبهة النصرة”، التي تعمل تحت عباءة “القاعدة”، في مساحات كبيرة نسبيا، ويتراجع نفوذ المعارضة المسلحة التي تحظي بدعم غربي، وتركي، وقطري، وسعودي. وبالنسبة لمصر، فإن ما يحدث في سوريا من انهيارات تنذر بتفكيكها يعد مسألة أمن قومي علي درجة عالية من الخطورة. وبالنسبة لإيران، فإنها مسألة حياة أو موت تفوق أهميتها الاستراتيجية المشروع النووي كله.
والحديث مع إيران حول التسوية السياسية المقترحة في جنيف، وطبيعة الدولة السورية الجديدة مسألة لا يصح أن تغيب تحت أي ظرف، وهذا يستدعي حديثا صريحا آخر مع السعودية حول موقفها من الأزمة السورية، بعد أن وصلت إلي مربع السقوط في قبضة “داعش”.
وهناك ـ رابعا ـ العراق وأزمته، ومستقبل وحدة ترابه الوطني، وأثر صراعاته المذهبية والحرب المعقدة مع “داعش”، حيث عجزت الولايات المتحدة عن بناء أية استراتيجية شبه متماسكة، واتسع نطاق الدور الإيراني في القتال علي الأرض.
هذا التدخل تعثر بعمق، ونجحت “داعش” في إحراز مكاسب عسكرية قد تطيل الحرب لسنوات طويلة مقبلة. ولا يصح أن يكتفي العالم العربي بإبداء ضيقه مما هو منسوب لإيران من تجاوزات علي المسرح العراقي، دون أن يدخل طرفا مباشرا، يحاور، ويعترض، ويطرح التساؤلات الجوهرية عما بعد الحرب، ومستقبل العراق كدولة، وإمكانية تقويض النزاعات المذهبية، وجرائمها المتبادلة علي نطاق واسع.
وهناك – خامسا – الأزمة في لبنان، وقلق مواطنيه من تداعيات الحرب في سوريا.
لا تملك أي عين تطل علي بيروت الآن غير أن تري المدي الذي وصل إليه الحضور الإيراني. فإذا ما ترك لبنان لمصيره، فإنها كارثة تلوح في الأفق. وإذا ما ترك مستقبل مؤسساته الدستورية إلي قرارات الآخرين، بعد الانتهاء من المفاوضات الأمريكية – الإيرانية، فأي حديث عن دور للعالم العربي يصبح لغوا فارغا.
في لبنان، كل شيء معطل، انتخابات الرئاسة، ومهام الحكومة التي تكاد تصرف الحد الأدني من مهامها، وأعمال البرلمان الذي ينتظر إشارة خضراء من القوي الدولية والإقليمية ليبدأ حسم السؤال الرئاسي كـ “البلدوزر”، بتعبير رئيسه نبيه بري.
الحديث مع إيران لا يعني القفز إلي المصالحة قبل استكمال مقوماتها، ولا يعني غض الطرف عن أية أزمات في ميادين المواجهات.
ما هو مطلوب وملح خفض التوترات في المنطقة بأكبر قدر ممكن، والتوصل إلي تفاهمات وتسويات تحوز قبول العالم العربي والإيرانيين معا، وأن تُختبر النيات والسياسات علي موائد التفاوض بالدبلوماسية قبل القوة، وبالمصالح المشتركة قبل الأحلاف العسكرية.
ثانيا- أسئلة القوة العربية المشتركة:
أحاديث القوة العربية المشتركة ملغمة بأسئلة حرجة.
أولها من العدو، وثانيها: أين الجبهة؟. إذا لم يكن هناك أفق سياسي لحركة السلاح خارج حدوده، فإننا قد نتعرض لأزمات محتملة في وقت حرب مع الإرهاب تنال من مستوي الثقة العامة. ولا يوجد طرف دولي أو إقليمي واحد يقول إنه يمكن حسم الأزمة اليمنية، علي سبيل المثال، بالسلاح وحده.
ونحن سنري أن للولايات المتحدة حسابات ومصالح مع إيران تتجاوز الخليج إلي الإقليم كله. وبحسابات القوة الراهنة، فإن إيران اللاعب الإقليمي الأول في الحرب علي “داعش”، وفي أزمتي العراق وسوريا، ودورها ممتد بقوة إلي لبنان.
وفي قلق اللحظة، تحاول الإدارة الأمريكية تطويع إيران بمظاهرات السلاح في اليمن، لكن مصالحها تفرض عليها أن تضع خطوطا حمرا في الهواء لحدود التدخل، ومداه الزمني، حتي لا تفسد طبخة اتفاق المشروع النووي الإيراني الذي تراه تاريخيا، وتتعطل تفاهمات كبري تراهن عليها. وبتوصيف البيت الأبيض لاتجاهات الحركة المقبلة: “ليس من الحكمة رفع العقوبات عن إيران في اليوم الأول من تطبيق اتفاق نهائي”. والمعني واضح، وهو وضع إيران تحت الاختبار والضغط، وفق ما تراه الإدارة الأمريكية من أدوار وترتيبات.
واللافت في أحاديث العمل العسكري العربي المشترك أنه لا توجد رؤية واحدة تصوغ أهدافه وأولوياته، كل شيء تقريبا محل تنازع من حقيقة الأزمة مع إيران، وحدودها، إلي طبيعة العلاقات مع تركيا وتعقيداتها، إلي إدارة الأزمتين السورية والعراقية.
لا توجد توافقات حقيقية في أي من هذه الملفات، وهذا يستدعي حوارا جادا ومصارحة بالحقائق، فلا يمكن تأسيس حلف عسكري علي أرض سياسية هشة.
بمعلومات شبه مؤكدة، فإن مصر لم تكن لها مشاركة أساسية، تخطيطا أو تنفيذا، في عمليات القصف الجوي لمواقع وتمركزات الحوثيين، وأنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح، التي أطلق عليها “عاصفة الحزم”. وقد أخطرت بتلك العمليات قبل وقت وجيز للغاية من انطلاقها.
ونحن نفهم أن أي تغول علي الحقوق والأراضي العربية لا يصح التهاون فيه، فقد أصبح الضعف العربي مادة لاستهزاء عام معلن. غير أنه ينبغي التحوط من عدم الانخراط علي أي نحو في منازعات مذهبية لم تألفها مصر، طوال تاريخها الحديث، أو أن تدخل بأية طريقة في حرب مفتوحة مع إيران.
وقبل أي خطوة بالسلاح، فإن الأولوية للسياسة. وأي عمل عسكري هو عمل سياسي، وحديث القوة هو حديث في السياسة، وأهدافها، ومصالحها. ولابد أن نلاحظ هنا أنه بالنسبة لأطراف عربية رئيسية تدعم مشروع القوة العربية المشتركة، فإن العدو هو إيران، حيث يتمدد نفوذها. وبالنسبة لأطراف أخري، فإن الأولوية للحرب علي الإرهاب وتنظيماته التكفيرية، أينما وجدت، فوق تضاريس المنطقة المشتعلة بالنيران.
وحيث ترتبك الإجابة، يصعب الرهان علي مستقبل مشروع القوة المشتركة كله. فالحرب المفتوحة مع إيران حماقة سياسية بلا حد، وانجراف إلي صراعات مذهبية بلا تعقل. وهناك فارق جوهري بين مناهضة تغول الدور الإيراني بأكثر مما هو طبيعي ومحتمل، وبين إعلان حرب مفتوحة تمتد من الدولة إلي المذهب، ومن الاختلاف إلي الوجود نفسه.
إيران ليست إسرائيل، ومن غير المقبول، بأي قياس قومي، استبدال الأولي بالثانية، فهذا خلط مريع في الأوراق يقوض نهائيا أي تطلع لعمل عربي وعسكري مشترك.
وفي الوقت نفسه، لا يوجد تعريف متفق عليه للإرهاب، وبعض الدول المرشحة للانضمام إلي القوة المشتركة تدعم جماعات تعدَها دول أخري إرهابية.
ومع ذلك، فإن أي تردد في الالتزام بأمن الخليج خطيئة سياسية، غير أن الشطط في الخصومة مع إيران خطيئة أخري. وبالإضافة إلي ذلك، فإن الحرب المفتوحة مع إيران ليست قرارا عربيا محضا، فللدول الغربية الكبري مصالحها، وحساباتها، وصفقاتها المحتملة مع طهران. ورغم كل التعقيدات والمناورات، فإن العودة لموائد التفاوض من جديد بين الأطراف اليمنية المتنازعة مرجحة تماما بضغط غربي، تؤيده روسيا والصين، فضلا عن إيران نفسها. وبالنسبة للسعودية، فإن الأزمة اليمنية وجودية، حيث وصلت قوات الحوثيين الموالين لطهران إلي حدودها المباشرة. وفي هذه اللحظة، تقف إيران علي الباب السعودي، تطرقه بقوة، وتهدده بعنف، بعدما أخذت مساحات علي حسابه في “بيروت”، و”دمشق”، و”بغداد”. ولذلك، فإن خسارة اليمن تعني بالضبط احتمال انهيار السعودية كدولة. ولهذا السبب، نزعت نخبة الحكم الجديدة في السعودية إلي فتح صفحة جديدة مع تركيا، بحثا عن وثائق تأمين إضافية لمواجهة صعود النفوذ الإيراني، المرشح لمزيد من القوة.
وللسبب نفسه، فكرت نخبة الحكم الجديدة في بناء تحالف سياسي يضمها إلي تركيا ومصر، ويواجه تحالفا آخر، تقوده إيران.
والسؤال هنا: هل كان طرح مشروع القوة العربية المشتركة، بينما الرئيس التركي في الرياض، محاولة لقطع الطريق علي أية تأثيرات سلبية في المصالح المصرية، جراء هذا التقارب؟. وإذا مددنا الخيط إلي آخره من الأزمة اليمنية إلي أزمات المنطقة الأخري الأكثر خطورة واشتعالا، فإن القوي الدولية النافذة لا يمكن أن تترك أحاديث القوة المشتركة تمضي وفق ما يقرره العرب دون تدخل وضغط لإعادة تكييف الفكرة، وفق مصالحها. وأي كلام آخر هو الوهم نفسه.
ثالثا- كيف تقترب مصر من الملف الإيراني؟
كان السؤال مباغتا تماما، والإجابة عليه شبه مستحيلة: من يضمن منكم أن يتوقف الأمريكيون عن طرح طلبات جديدة، إذا استجبنا لكل ما طرحوه حتي الآن؟”.
لم يجب أحد من فريق التفاوض الإيراني علي سؤال المرشد آية الله خامنئي، وران صمت علي الاجتماع الذي جرت وقائعه، قبل ست سنوات، حسب رواية قيادة بارزة في حزب الله.
التوجس نفسه يأخذ صيغة سؤال جديد بلا تأكيد نهائي علي إجابته: “من يضمن رفع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة منذ اثني عشر عاما في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق النهائي بخصوص المشروع النووي الإيراني؟”. للتوجس أسبابه، فقد تمدد نفوذ إيران الإقليمي بأكثر من طاقتها علي التمركز بثقة، والحفاظ علي ما اكتسبته باطمئنان.
هدفها الرئيسي من رفع العقوبات بأسرع وقت ممكن تثبيت مكتسباتها الإقليمية، قبل إزاحة الضغوط الاقتصادية من علي كاهل مواطنيها. والمشروع الإقليمي حكم كل شيء تقريبا في السياسة الإيرانية، بما في ذلك مشروعها النووي. وفي سعيها لامتلاك القوة النووية، عملت علي بناء قاعدة إجماع وطني تؤكد شرعية نظام الحكم، وهيبة القوة ساعدت علي تمدد دورها في الإقليم.
تقدمت إيران إلي مشروعها النووي في التوقيت ذاته الذي تمددت فيه أدوارها الإقليمية، وراهنت علي نسج الحقائق في الإقليم المشتعل بالنيران دون تعجل كأي نساج سجاد إيراني يأخذ وقته الطويل، قبل أن ينتهي من عمله.
وهنا، فإن القوة العربية المشتركة تضفي علي الدبلوماسية هيبتها. غير أن التورط في الصدام مع إيران قضية أخري. والاقتراب المصري من الملف الإيراني يفتح المجال أمام تفاهمات ممكنة تمنع أية تقسيمات جديدة فوق خرائط الإقليم، بعد دحر “داعش”.
تقسيم العراق لثلاث دويلات، شيعية وسنية وكردية، محتمل، غير أنه ينطوي علي انفجارات أشد وأعنف، وتصفية حسابات دموية، وإعادة إنتاج “داعش” بأسماء جديدة. والمثير أن التقسيم سوف يناقض طموح إيران لقيادة الإقليم، ويحصر نفوذها في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، والنزعة العروبية سوف تنهض لمقاومة التغول الفارسي. كما أن المناطق الأخري سوف تناصبها العداء، وتسودها روح الانتقام. واللافت هنا أنه لا توجد سياسة أمريكية يعتد بها في النظر إلي مستقبل العراق، بمعني أن من يطلب تطويع إيران، لا يعرف بالضبط ما الذي يريده، وأين خطوته التالية.
الأمر نفسه في الشأن السوري، فالإيرانيون يعرفون خياراتهم، والأمريكيون شبه متخبطين، والدول العربية منقسمة بضراوة بشأن متي تبدأ التفاهمات الإيرانية – الأمريكية، وأين تستقر الحقائق علي الأرض.
هذا السؤال هو صلب أية حوارات خلفية بين واشنطن وطهران، قبل حسم رفع العقوبات الاقتصادية، فيما يغيب العرب بصورة شبه كاملة.
في سيولة كتل النيران، لم تكن مصادفة أن تنسق الإدارة الأمريكية العمليات العسكرية في تكريت ضد “داعش” مع إيران، بينما تنسق عمليات مضادة مع السعودية في اليمن.
أرادت بالأولي اختبار التفاهمات الممكنة مع اللاعب الإيراني، وحدود التنسيق الميداني علي الأرض، وأرادت من الثانية تهدئة قلق الخليج من أية تفاهمات محتملة.
وظفت الإدارة الأمريكية العمليات العسكرية في اليمن لتطويع المفاوض الإيراني في الأمتار الأخيرة، قبل التوصل إلي اتفاق نهائي، وضبطت إيران تصرفاتها، حتي لا تفسد طبخة التسوية التي انتظرتها طويلا.
هاجمت إسرائيل اتفاق لوزان سعيا لصفقات سلاح، وتمويلات أمريكية باسم تهدئة مخاوفها من “الخطأ التاريخي” الذي ارتكب. وهاجمه الجمهوريون في الكونجرس لإبراز تناقضات الإدارة الديمقراطية وضعفها، قبل الانتخابات المقبلة. غير أنه من الصعب للغاية وقف تنفيذ اتفاق حين توافق عليه الدول الكبري جميعها بلا استثناء واحد.
وهكذا، فأمام انقلابات الإقليم الجارية والمحتملة، فإن ما تحتاج إليه مصر الآن أن تنظر حولها بتأمل، وترصد المتغيرات حولها بعمق، كدولة مركزية في المنطقة، لا كلاعب هامشي ينتظر ما يقرره له الآخرون.
رابعا- سباق خماسي علي القوة والنفوذ:
هناك سباق ضار علي القوة والنفوذ في الإقليم، تشارك فيه خمسة جياد، مصر والسعودية من داخل العالم العربي، وتركيا وإيران في محيطه المباشر، وإسرائيل حاضرة تنتظر فرصتها. الجياد الأربعة الأولي وجودها طبيعي بأي معني تاريخي وجغرافي وحضاري، بينما الخامس مصطنع كأنه قلب مزروع في جسد يرفضه، رغم مرضه المزمن.
وثمة رهانات سياسية متبادلة بين الجيادين العربيين، تلخصها المصالح المشتركة. فمصر تراهن علي دور خليجي في تعافيها الاقتصادي الضروري لأي دور إقليمي محتمل، ينفض عنها الانكفاء الطويل. والسعودية تراهن علي أن تقوم الدولة العربية الكبري علي قدميها بأسرع وقت ممكن، حتي توازن إيران في معادلات المنطقة، وتوفر للخليج وثيقة ضمان لأمنه بالمعنيين العسكري والسياسي. مساحات التوافق في ملفي الخليج واليمن شبه محسومة، غير أن هناك ظلالا كثيفة علي الملفات السورية والعراقية، وطبيعة العلاقات مع تركيا وإيران.
وبينما تطلب الرياض تحالفا يضمها إلي مصر وتركيا في مواجهة إيران وحلفائها، واقترابا مختلفا من جماعة “الإخوان المسلمين”، فإن القاهرة تتحفظ، فليست لها مصلحة واحدة في دخول مثل هذا الحلف. ولهذا السبب بالتحديد، طرحت الرئاسة المصرية مشروع “القوة العربية المشتركة”، قاصدة أن تكون هناك بدائل أخري معروضة علي الحليف السعودي.
هذه نقطة تستدعي حوارا استراتيجيا صريحا ومباشرا يحاول في وقت واحد خفض التوتر مع تركيا، وفتح قنوات مع إيران. وبالنسبة للدبلوماسيين المصريين، فإن غالبيتهم الساحقة تطلب الأمرين معا.
وبينما تعرقل انحيازات الرئيس التركي أية اقترابات محتملة مع اسطنبول، فإن الطرق شبه مفتوحة أمام الحديث مع إيران. ولا يعني الحديث قفزا إلي مصالحة قبل استكمال مقوماتها، أو إضرارا علي أي نحو بأي أمن عربي، فهذا خط أحمر نهائي. فبعد احتلال بغداد (2003)، تقدمت كل من تركيا وإيران، في غياب مصري تام، لملء الفراغ الاستراتيجي في المشرق العربي بطريقتين مختلفتين.. الأولي بقوتها الاقتصادية البازغة، حيث تحتل المركز السادس علي المستوي الأوروبي، وقوتها الناعمة، حيث تتبدي المشتركات الثقافية. أما الأخيرة، فبوضوح أهدافها الاستراتيجية، وقوة تحالفاتها قبل قوة السلاح، وهذا ما افتقدته بفداحة الأطراف الإقليمية الأخري.
وبسرعة غير متوقعة، تراجعت رهانات اسطنبول علي أن القرن الحادي والعشرين في المنطقة سوف يكون تركيا بحسب المصطلحات التي شاعت في لحظة الصعود وبريقها. ومن المثير أن رجب طيب أردوجان، الذي قاد الصعود التركي، ويتحمل الآن مسئولية انكساره، تملكته “عقدة السيسي” بأكثر مما هو طبيعي في أي قياس لمصالح بلاده الاقتصادية والاستراتيجية في أكثر مناطق العالم حساسية.
وبقدر الإثارة نفسها، فإن سند القوة في الصعود الإيراني هو نفسه نقطة ضعفه.
فالتقدم علي أساس مذهبي يفرز الحلفاء بسهولة، لكنه يفجر العداوات بالدرجة نفسها، ويمنع عن الأدوار قدرتها علي الرسوخ لفترة طويلة. وهنا، تكمن قوة الدور المصري وقدرته علي الإلهام، إن توافرت سياسة تقنع وتؤثر.
والأكثر إثارة، في سباق الجياد الإقليمية، أن إسرائيل، رغم قوتها العسكرية الباطشة، تبدو بأضعف حالاتها السياسية. فمع تقويض حل الدولتين بصورة كاملة، تبدو السياسة الإسرائيلية في حالة انكشاف تحرج حلفاءها الغربيين، وتنزع أية ادعاءات مراوغة تسوغ الاستيطان، والقمع، وحصار غزة، والتنكيل بكل ما هو فلسطيني.
بتلخيص رمزي، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أقرب إلي جواد يتصور أن بوسعه الربح دائما بخسارات الآخرين، والتوسع المجاني من ثغرات العجز العربي الفادح. وكأي رهان من مثل هذا النوع، لا يمكن الوثوق في تمدده بلا أثمان تُدفع، وهو مرشح لأن يدخل في الحائط مع زيادة منسوب الغضب الغربي، الشعبي أولا، والبرلماني ثانيا، علي السياسات الإسرائيلية.
خامسا- مصر بين الرياض وطهران:
في المواجهة السعودية – الإيرانية علي الأرض اليمنية، يحاول كل من الطرفين أن يستقطب أنصارا، ويضخ أموالا وسلاحا لإضعاف المعسكر الآخر، لكنهما يدركان أن الأزمة إقليمية بقدر ما هي يمنية. وكلاهما يتحسب من أية ترتيبات تالية لمظاهرات السلاح.
كانت “عاصفة الحزم” تعبيرا خشنا عن مستوي القلق السعودي من ميل موازين القوي في اليمن لمصلحة المعسكر الذي تدعمه إيران.
استبقت العمليات العسكرية القمة العربية في “شرم الشيخ”، خشية أن تتحفظ بعض دولها عليها، و”اتفاق لوزان”، خشية أن يفضي إلي رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، وترتيبات جديدة في الإقليم علي حسابها. وبدأت العمليات دون أدني تنسيق مع الحليفين العسكريين الكبيرين، مصر وباكستان، وقد جري إخطارهما، قبل وقت وجيز من تحرك الطائرات.
بالنسبة لإيران، فإن سلم أولوياتها لا يتصدره اليمن علي عكس السعودية. الأولويات تحددها المصالح الاستراتيجية، لا مساجلات الإعلام. فسوريا لها الصدارة في أية حسابات إيرانية، وخسارتها تعني بالضبط وضع أمنها في مرمي النيران، وبعدها العراق بكل ثقله، وتعقيداته، وسيناريوهات مستقبله الغامضة، ثم لبنان، حيث تتبدي قوة حضورها في معادلاته من قوة حليفها، حزب الله.
الحضور الإيراني يستهدف بالأساس “المناكفة الاستراتيجية” للسعودية عند خاصرتها الجنوبية، وهذه لها صلة وثيقة بميادين الصراع الإقليمية الأخري. والمعني أن إيران لن تفرط علي أي نحو بأوراقها في اليمن، دون أن تحصل علي تسوية مرضية تضمن لأنصارها حضورا سياسيا مؤثرا، وتسويات أخري في مناطق تتنازع فوقها مع اللاعب السعودي. ورغم قرار مجلس الأمن الذي وفر غطاء دوليا لكل ما طلبته دول الخليج، تبقي الحقائق علي الأرض أساس كل تفاوض. ومن المثير أن الأطراف اليمنية المتنازعة بالسلاح تعلن بلا استثناء واحد التزامها بمخرجات الحوار الوطني. غير أن أحدا لا يصدق الآخر، فضلا عن أن كل طرف تقف وراءه قوة إقليمية ترسم خطاه، وتحدد مواقفه. ولذلك، وبما لا يحتمل أدني لبس، فإن العودة إلي موائد التفاوض تعني بالضبط حوارا سعوديا – إيرانيا.
وقد كان من الأسباب الجوهرية لوصول الأزمة إلي ما وصلت إليه أن كل لاعب إقليمي حرك أنصاره، وفق مصالحه. دعت إيران “الحوثيين” مدعومين من قوات “صالح” إلي التمدد الميداني، وتقويض أية فرص للتوافق، بظن أن بناء القوة علي الأرض أهم من صياغة القرارات علي الأوراق. وحسب مفاوضين يمنيين، فإن الحوثيين كانوا يستمهلون البت في القرارات المصيرية، حتي استطلاع الرأي الإيراني. وللغرض نفسه، اقتربت السعودية من أعداء تاريخيين ناصبتهم العداء طويلا علي المسارح اليمنية لمواجهة الخطر المشترك، وتداخلت في الملف التفاوضي قبل أن ينفجر.
ولم تكن مصادفة إخفاق الحوار اليمني. فاللاعبان الإقليميان فضَّلا، كل لأسبابه، الوصول إلي طريق مسدود. وفي المفاوضات المتنظرة، نجد السعودي حاضرا بقوة، والإيراني لا يمكن تجاهله، وتوازن القوة وحده هو الذي سيحكم النتائج. وحيث تبدو الفرص متاحة أمام دور جديد للقاهرة في إقليمها من البوابة اليمنية، لا تتسق الحركة المصرية مع التحديات، ولا توجد مبادرات مؤثرة. ورغم وجود حوارات مع الحوثيين، وأخري مع الإيرانيين بصورة متقطعة، فهي غير معلنة، خشية حساسية الحليف الخليجي، وهذه لا محل لها، فمصر محام مؤتمن علي أمنه.
إن أي دور مؤثر يستدعي انفتاحا علي الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن، بدرجة أعلي من الكفاءة، وتفويضا خليجيا، عبر مكاشفة صريحة، وحديثا مع إيران في القضايا الخلافية لتطويق أزمات الإقليم كله.
عبدالله السناوي
مجلة السياسة الدولية