أعلن التدخل العسكري الروسي في سوريا أن إيران لم تعد اللاعب الأساسي الوحيد على الساحة السورية. وهذا المدخل الذي اختاره فلاديمير بوتين لتفعيل دوره في المنطقة، يتمثل في سعيه للدخول إلى نادي الحرب على الإرهاب من البوابة السورية، بعد أن استنتج أن ترك الأمور تذهب في اتجاه سقوط الأسد، سيحرمه من دوره ويهدد مصالحه في المنطقة.
التوافق الأميركي الروسي الأوروبي على ضرورة اعتبار الحرب على داعش أولوية أساسية، تتفوق على ما عداها، يطرح إشكاليات عديدة تتعلق بمصير سوريا والمنطقة، خصوصا بعد خروج مئات الآلاف من السوريين من البلاد بعد فتح أبواب اللجوء في أوروبا، إضافة إلى أن عدد السوريين اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا تجاوز الخمسة ملايين، أي ما يعادل ثلث عدد سكان سوريا تقريبا.
تستهدف الحرب الدولية على الإرهاب المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش. واللافت أن هذه المناطق تضم جلّ ثروات سوريا ومعظم مواردها، وقد نجح التنظيم المتطرف في خلق نظام إداري لها جعلها المساحة الأكثر استقرارا وقابلية للعيش، مقارنة بباقي المناطق الواقعة تحت سلطة المعارضة، أو تلك الواقعة تحت سلطة النظام.
هكذا تتخذ الحرب على الإرهاب بالنسبة إلى قاطني تلك المناطق شكل تدمير آخر مساحة مستقرة قابلة للعيش في سوريا دون تأمين أيّ بديل، لذا لن يكون أمامهم أيّ خيار سوى التماهي التام مع التنظيم المتطرف والتعرض للإبادة، أو محاولة الفرار خارج البلاد.
وتضم المناطق الواقعة تحت سيطرة داعش حوالي ثلث عدد سكان سوريا، وإذا أضفنا إلى هذا العدد الثلث الذي ترك البلاد، لا يتبقى سوى الثلث الذي يتألف من كوكتيل متوازن عدديا من الأقليات العلوية والمسيحية والدرزية، إضافة إلى وجود سني خرج من واقعه الأكثري ليتحول إلى تنويع أقلّوي الطابع. وهذه الأقليات الهشة لا تغري أحدا بالاستثمار فيها حيث لا يمكن لأيّ واحدة منها السيطرة وتشكيل بنية نظام أو دولة، لذا يرجّح أنها ستترك لمصيرها.
يقودنا منطق الحرب على الإرهاب في سوريا إلى استنتاج مفاده أن سوريا الجديدة التي يعمل على خلقها ستكون بلا سوريين. هذا السيناريو يفرض على الدول الإقليمية تحجيم دورها الخارجي، ويجبرها على الانكفاء نحو الداخل، أو الحرص على حصر عناوين التدخل الخارجي بسياقات محدودة، مرتبطة بشكل مباشر بالوضع الداخلي.
إيران ستجد نفسها مدفوعة إلى سحب استثمارها العسكري في سوريا، والحرص على بلورة مفاعيل الاتفاق النووي في الصراع الداخلي الذي بدأ يظهر بوضوح بين المحافظين والمتشددين، حيث يسعى كل طرف إلى الاستفادة من الواقع الجديد الذي يؤسس له في الداخل الإيراني.
من هنا نفهم أن عودة المرشد الأعلى إلى خطاب العداء لأميركا وإسرائيل، الذي كان قد غاب عن التداول طوال هذه الفترة، ليس سوى رسالة داخلية يتوجه بها إلى روحاني وفريقه وإلى الإصلاحين على أعتاب انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء.
من هنا يمكننا أن نستنتج أن حزب الله لم يعد استثمارا إيرانيا مفيدا في هذه المرحلة، بل بات مجرد تفصيل صغير في السجال الإيراني الداخلي، لذا فإنه من المتوقع أن نشهد في الفترة المقبلة انكفاء الحزب نحو الداخل اللبناني، ومحاولة انتزاع موقع أساسي فيه، لأنه الملاذ الأخير له.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الأهمية الاستثنائية التي يتخذها الحراك الشعبي لناحية منع حزب الله من إحكام سيطرته على مقاليد الأمور في البلاد. تكمن هذه الأهمية في كون الحزب كان قد عمل جاهدا على إلغاء السياسة، وتفجير الحياة العامة، وتدمير كل متطلبات العيش، ومنع النقاش بشأنها تحت عنوان الجهاد ومتطلبات المعركة.
حرمان الحزب من هذه العناوين يضعه في مواجهة حراك شعبي لا يطرح في وجهه أسئلة كبرى تعوّد أن يجيب عليها عبر ضخ عناوين أيديولوجية، وشعارات طائفية، وبث منطق التخويف. فالحراك الشعبي، الذي يشكل الشيعة جزءا كبيرا منه، يطرح عليه مواضيع حياتية مباشرة يجد نفسه عاريا أمامها، من قبيل الكلام الذي رفع في الحملات الشعبية مرفقا بصورة نصر الله والذي يعلن ساخرا “عنا بالضاحية مافي شي، لا كهربا ولا مي ولا شي”.
السعودية تبدو كذلك مشغولة بالداخل، حيث لا يمكن النظر إلى تدخلها في اليمن الذي تسعى بشكل واضح إلى تقصير مدته، والتوصل إلى تسويات منطقية بشأنه، سوى أنه يأتي في سياق الاهتمام بتحصين الساحة السعودية الداخلية. هكذا لا يتوقع أن تولي لبنان اهتماما كبيرا بل أن تسعى إلى بقاء الأمور على حالها، والحفاظ على الخط الأحمر الوحيد المجمع عليه سعوديا ودوليا بشأن لبنان، والذي يبدو أنه يقتصر على منع الانفجار الأمني. الهموم الحياتية التي تحرك الشارع ليست محل اهتمام السياسة السعودية، وليس من المتوقع أن تساعد حلفاءها في لبنان على إيجاد حلول لها. هكذا يجد تيار المستقبل، حليف السعودية الأبرز في لبنان، نفسه في موقع يضعه في تماس مع الحراك الشعبي.
الانكفاء صوب الداخل الذي فرضه مسار الحرب الدولية على الإرهاب في سوريا يعني أن كل الدول الإقليمية ستعمل في هذه المرحلة على تمكين الأوضاع الداخلية، وتقليل التورط في الخارج قدر الإمكان، وضبطه ضمن الحدود التي تضمن استقرار الداخل. ويبدو لبنان في ظل هذه التحولات الحلقة الأضعف لأن لا شأن داخليا فيه لا يرتبط بالخارج، فهو يعيش تحت تأثير الخارج وانعكاساته. من هنا يمكن أن نتوقع استمرار سيطرة حالة المراوحة والجمود على المشهد اللبناني إلى أجل غير مسمى.
شادي علاء الدين
صحيفة العرب اللندنية