الطائفية والنظام السياسي

الطائفية والنظام السياسي

عن-الطائفية-والخبز-والملح

حتى لا يكون انزلاق إلى موقع الإيديولوجية البرجوازية المسيطرة في شكلها كإيديولوجية طائفية، لا بد من التمييز، في تحديد الطائفية، بينها في مفهومها البرجوازي، وبينها في مفهومها النقيض. فالطائفية، في مفهومها البرجوازي هي نظام حكم الطوائف. والحكم هذا مشاركة بينها في توازن دقيق به تقوم الدولة، وبه تدوم. فإذا اختل، تفككت الدولة – أو تهددها التفكك – فتعطّل دورُها في إدارة مصالح الطوائف، وتأمين ديمومة حكمها. إذّاك، يدخل المجتمع في أزمة تشخصها البرجوازية، بحسب مفهومها ذاك، كأزمة تعايش بين الطوائف: فإما عودة إلى التوازن في الحكم، بعودة إلى المشاركة فيه، وإما استقلال لكل طائفة بحكمها الذاتي، في إطار خارجي من التعدد الطائفي، ربما كان عند البعض إطارا لكونفدرالية من الكانتونات.
حجر الزاوية في هذا التحديد للطائفية هو تحديد الطائفة. فالطائفة، في مفهومها البرجوازي، هي كيان مستقل قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية. لذا، كانت العلاقات بين الطوائف، بالضرورة، خارجية، لا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر لتعايشها السلمي. لا وجود لشعب، ما دام الشعب طوائف، لا وجود لوطن. على قاعدة هذا التعدد تقوم دولة الطوائف، وتدوم بديمومته. كأن منطقها الخفي أن تنتظر تفككا هو ضروري بضرورة بنيتها. والتاريخ كفيل بتحقيق هذه الضرورة. فضيلة هذا التحديد أنه يريح الفكر من عناء النظر في تعقد الواقع المادي والبحث في طبقاته الاجتماعية وفي الصراع وأشكاله بينها. فيستكين الفكر، إذّاك، لظاهر من الواقع هو الذي ينتظم في مفاهيم الإيديولوجية البرجوازية.
لكن الطائفية، في موقع نقض هذه الإيديولوجية الطبقية المسيطرة، هي الشكل التاريخي المحدد للنظام السياسي الذي تمارس فيه البرجوازية اللبنانية سيطرتها الطبقية. معنى هذا، بدقة، أن التلاؤم قائم بين النظام السياسي (والإيديولوجي والحقوقي) للسيطرة الطبقية، وبين شكله التاريخي الذي هو شكله الطائفي. والبحث في العوامل التاريخية التي تضافرت في تحديد تكون هذا النظام في شكله هذا، على أهميته البالغة، لا يدخل في إطار هذا المقال .
هل هذه العلاقة القائمة بين النظام السياسي لسيطرة البرجوازية اللبنانية والشكل الطائفي لهذا النظام هي علاقة تلاؤم تاريخي، أم أنها، أكثر من ذلك، علاقة تلازم بنيوي؟ الفارق بين العلاقتين، في رأينا، كبير. العلاقة الثانية تتضمن، بالطبع، الأولى، دون أن تنحصر فيها. لكن الأولى لا تتضمن الثانية. ففي شروط تاريخية محددة من تطورها، بإمكان علاقة التلاؤم بين النظام وشكله أن تنقلب علاقة من عدم التلاؤم، فتظهر، حينئذ، ضرورة انتقال النظام من شكله الطائفي السابق، إلى شكل آخر جديد، لا يُحدث تغييرا في بنيته الطبقية، من حيث هو سيطرة البرجوازية. فهل نحن الآن، في المرحلة الراهنة من تفجر أزمة النظام في هذه الحرب الأهلية المستمرة، في حالة كهذه، تسمح بتغيير الشكل الطائفي للنظام السياسي البرجوازي، والانتقال بهذا النظام إلى شكل آخر منه، قد يكون طائفيا وقد لا يكون، دون تغيير في طابعه الطبقي؟ أم أن الوضع الراهن مختلف، ولا بد في فهمه من إعادة النظر في طبيعة العلاقة نفسها بين ذاك النظام وشكله، من حيث هي علاقة تلازم بنيوي؟ في حالة كهذه، كل تغيير في الشكل الطائفي لهذا النظام السياسي يفرض تغييرا في طبيعة هذا النظام وبنيته، في شروط تاريخية محددة من الصراع الطبقي هي شروط سيرورة تطور ديمقراطي وطني. وسيرورة هذا التطور هي سيرورة الانتقال إلى الاشتراكية.
ليس للمشكلة التي نطرح طابع شكلي بحت، أوطابع مفهومي بحت. إن لهذه المشكلة النظرية علاقة مباشرة بمجرى المعركة السياسية الراهنة التي قد يكون طابعها التاريخي المميز هو ما نلحظه فيها من تسابق، هو صراع طبقي، خفي حينا، وعلني حينا آخر، بين حل أو إصلاح طائفي للنظام السياسي الطائفي، وحل أو إصلاح ديمقراطي وطني لهذا النظام، معاد للطائفية. ومثل هذا الصراع بين الإصلاحين أو الحلين، ليس قائما بين القوى الوطنية وبين القوى الفاشية وحسب، بل نراه يجري، موضوعيا، بين أطراف التحالف الوطني نفسه.
نميل من جهتنا، إلى تأكيد أن العلاقة تلك هي علاقة تلازم بنيوي. ولقد بينا ذلك بالتفصيل في دراستينا: «مدخل إلى نقض الفكر الطائفي»، و»بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان». وبإيجاز كلي نقول إن الشروط التاريخية التي تكونت فيها دولة البرجوازية اللبنانية كدولة طائفية هي نفسها شروط تكون الرأسمالية في لبنان في طور أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي. وهي، بالتالي، الشروط نفسها التي حالت دون تكون البرجوازية اللبنانية كطبقة ثورية، على نموذج البرجوازية الأوروبية، مثلا، في طور صعود الرأسمالية. لهذه الأسباب، وغيرها أيضا، كان الشكل الطائفي للدولة اللبنانية أساسيا لوجودها كدولة برجوازية، من حيث هو الشكل الضروري الذي فيه تقوم الدولة بوظيفتها الطبقية في حماية مصالح الطبقة البرجوازية المسيطرة، عبر تأمين التحقق الآلي لإعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة في إطار علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية، وبإعادة إنتاج علاقة التبعية هذه.
ولئن سأل سائل: لماذا الشكل الطائفي لهذه الدولة هو أساسي لوجودها كدولة برجوازية؟ فالجواب هو باختصار، أن هذا الشكل يسمح للبرجوازية بالتحكم بمجرى الصراع الطبقي، بإبقاء الطبقات الكادحة فيه أسيرة علاقات من التبعية الطبقية بها هي، بالتحديد، علاقة تمثيل طائفي تربط الطبقات هذه بممثليها الطائفيين من البرجوازية ربطا تبعيا تفقد فيه وجودها السياسي كقوة مستقلة، لتكتسب فيه، وبه، وجودا آخر هو، بالضبط، وجودها الطائفي، أي وجودها كطوائف. فما دامت الطبقات الكادحة موجودة في مثل هذه العلاقة من التبعية الطبقية التي هي فيها موجودة كطوائف، فإنها لا تمثل أي قوة سياسية مستقلة هي قوتها الطبقية المناهضة للبرجوازية. إن هذا الشكل التاريخي المحدد من وجود الطبقات الكادحة كطوائف، في حركة الصراع الطبقي نفسه الذي تتحكم به البرجوازية المسيطرة عبر تمثيلها الطائفي لنقيضها الطبقي، هو الذي يؤمن للبرجوازية المسيطرة ديمومة السيطرة الطبقية، عبر تأمينه ديمومة التجدد لنظامها الطائفي الذي هو نظام سيطرتها الطبقية. من هنا أمكن القول، بدقة، إن الشكل الطائفي لدولة البرجوازية اللبنانية أساسي لوجودها كدولة طبقية برجوازية.

فصل من كتاب
«في الدولة الطائفية»، 1986

رجل النظرية وقتيل الممارسة

كان حسن عبد الله حمدان (1936 ـ 1987)، الذي سيُعرف باسمه الحركي الأشهر ، أحد المفكرين العرب القلائل الذين جمعوا بين العمل التنظيمي، في قلب الحراكات الشعبية والإضرابات والتظاهرات، وفي الحزب الشيوعي اللبناني؛ وبين العمل التأملي والتنظيري الملتزم، حول الفكر الماركسي عموماً، والقضايا الطبقية ذات الصلة بالمجتمع اللبناني، والمجتمعات العربية، خصوصاً. كذلك كان اشتغاله على تحليل الطائفية، كظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وبوصفها أيضاً حالة ما بعد استعمارية، تشمل الموقف من قضايا وطنية شتى، في رأسها القضية الفلسطينية؛ قد انتهى به إلى ما يشبه انتهاك أعراف راسخة ضمن المحاصصة الطائفية، بل المذهبية، في لبنان. وهكذا دفع حمدان/ ، الثمن الفادح بدمه شخصياً، حين سقط ضحية عملية اغتيال، كانت جميع الدلائل خلفها تشير إلى حزب لبناني، مذهبي وميليشياتي، كان وراء اغتيال المفكر اللبناني حسين مروة، زميل ورفيقه.
كتابات تركزت، بصفة عامة، على القضايا السياسية والفكرية ذات الصلة بالماركسية والمادية التاريخية والديالكتيك، فأصدر «مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني»، و»أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية»، و»النظرية في الممارسة السياسية: بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان»، و»مدخل الى نقض الفكر الطائفي – القضية الفلسطنية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية»، «في علمية الفكر الخلدوني»، و»في الدولة الطائفية». كذلك دخل عامل في سجال حول مسائل الاستشراق، فأصدر كتابه «هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ ماركس في استشراق إدوارد سعيد». وإذا صحّ أنّ مسحة من الجمود العقائدي قد هيمنت على تفكيره، فإنّ اعتناقه لطراز منفتح من التفكير الجدلي أنقذ أفكاره من بلوغ خلاصات جامدة، وبالتالي خاطئة.
ويُسجّل ل أنه بقي في بيروت خلا أسابيع الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية، صيف 1982، ونشر في مجلة «الطريق» مقالاً مأثوراً بعنوان «لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم». كذلك ظلت كتاباته تلحّ على العلاقة بين الثقافة والسياسة: «منذ أن التحمت النظرية بالثورة، لم تعد الثقافة حكرا على نخبة من الكهنة. فلقد عمت ضرورتها حتى بات على العامل، كي يكون عاملاً، أن يكون بأدوات إنتاجه المادي مثقفاً، وعلى المثقف، كي يكون كذلك، أن يكون بأدوات إنتاجه الفكري كادحاً. والإنتاجان واحدٌ في سيرورة التاريخ الثوري، هذا الذي يؤسس لحرية اليد المبدعة».

عامل مهدي

صحيفة القدس العربي