قبل كل انتخابات في الكيان الصهيوني يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم بعض الهدايا لصديقه العزيز بنيامين نتنياهو، لتحسين حظوظه الانتخابية. وهذه المرة ليست استثناء، بل عمل على إعادة الفتاة الإسرائيلية التي ضلت الطريق واخترقت الحدود من منطقة القنيطرة بسرعة الضوء، قياسا لقضايا تبادل الأسرى. فلم يمض على أسرها إلا عدة أيام حتى اتصل نتنياهو بصديقه بوتين، وطلب منه المساعدة فاستجاب الأخير فورا، وعادت الفتاة يوم الجمعة الماضي مقابل إعادة راعيي أغنام دخلا خط الهدنة بالخطأ من منطقة القنيطرة، والإفراج عن المناضلة السورية نهال المقت، التي آثرت أن تبقى في بلدتها مجدل شمس.
إضافة إلى هذا التبادل كانت هناك إشارة إنسانية من إسرائيل لم يفصح عنها الطرفان إلى أن نشرت جريدة الـ»فايننشال تايمز» الثلاثاء الماضي مقالا للكاتب روجرز بويز بعنوان «هل يكون بوتين صانع سلام في الشرق الأوسط» الذي أكد أن إسرائيل دفعت مبلغ 1.2 مليون دولار لروسيا مقابل شراء كمية من لقاحات «سبوتنيك الروسي» لتوزيعها في سوريا.
تشابكت المصالح والأدوار ولا حل لأزمة دون حلول للأزمات الأخرى ولم يعد ممكنا الآن استبعاد طرف من اللاعبين الأساسيين
بين اعتقال الفتاة الإسرائيلية وإطلاق سراحها أيام معدودة. وهذه ليست المرة الأولى التي يقدم فيها بوتين الهدايا لصديقه العزيز نتنياهو، فقد سبق وأعاد جثة الجندي زكاري باومل، الذي قتل في حرب 1982، وأعاد دبابة إسرائيلية في نهاية مايو 2016 كان الجيش السوري قد غنمها في معركة السلطان يعقوب عام 1982، ثم نقلت إلى المتحف الروسي الحربي، كما أعاد أو ساهم في إعادة ساعة الجاسوس إيلي كوهين عام 2018، الذي أعدم عام 1965. ولم تبق إلا جثتا جنديين قتلا في معركة السلطان يعقوب نفسها، وجثة الجاسوس كوهين والطيار رون أراد. لكن تظل إعادة جثة كوهين على رأس أولويات الكيان، وتظل قمة الهدايا الروسية للكيان الصهيوني فيما لو تحققت. وتقول المصادر المتعددة، ومنها صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» إن هناك فرق تحقيق روسية تجري كثيرا من الحفريات والبحث في مخيم اليرموك، وعلى الحدود السورية اللبنانية بدون أن يعرف أحد ما الهدف من هذه التحريات والحفريات، حيث يتكتم الروس على العملية تماما.
العلاقة استراتيجية وليست آنية
السر في هذه العلاقة هو الموقف من إيران من بين أسباب أخرى، صحيح أن روسيا تزود إيران بصواريخ أس- 300 الاستراتيجية، وتحارب في سوريا إلى جانب حزب الله والميليشيات الشيعية المقبلة من إيران، لمنع نظام بشار الأسد من السقوط، إلا أن هذه المعادلة انتهت، وحسم الأمر في سوريا لصالح النظام الروسي، الذي أصبح صاحب الكلمة العليا والنهائية في البلاد، وأصبح من مصلحة روسيا أن تغلق ملف الوجود الإيراني في سوريا. لكن الأمر ليس سهلا فهناك أقطاب في نظام الأسد، ليس من بينهم الرئيس بشار، تصر على بقاء القوات والميليشيات الإيرانية كنوع من تخفيف التأثير الروسي، الذي أصبح يتصرف بنوع من الفوقية. روسيا من جهتها تعمل بشكل بعيد المدى على توسيع وجودها في سوريا وتثبيته. فقد بدأت روسيا منذ العام الماضي بتوسيع القاعدة الجوية الروسية في حميميم قرب اللاذقية. وقد منح النظام السوري قطعة أرض إضافية ليتم إنشاء مدرج جديد ومحصن وواسع، يمكّـن القاذفات الاستراتيجية من استخدامه. وتضم قاعدة حميميم حاليا وحدة تجسس متطورة تابعة للاستخبارات الروسية، وحظائر طائرات محصنة من هجمات الطائرات بدون طيار. فالوجود الروسي في سوريا باق ولا علاقة له ببقاء بشار الأسد أو رحيله. من جهة أخرى، تقوم روسيا بغض الطرف عن ضربات إسرائيل المتلاحقة للقواعد والتجمعات والمصالح الإيرانية في سوريا، بل هناك رواية لا نستطيع تأكيدها أو نفيها، أن لقاءات حصلت بين ضباط روس وإسرائيليين وسوريين في قاعدة حميميم للتنسيق كي لا يتكرر الخطأ، الذي أدى إلى سقوط طائرة روسية في سبتمبر 2018 بصاروخ سوري انطلق للتصدي للطائرات الإسرائيلية، فأصاب بالخطأ الطائرة الروسية. وقد نفت دمشق هذه الأخبار جملة وتفصيلا، ووصف بيان لوزارة الخارجية الأنباء «بأنها مأجورة». إسرائيل من جهتها تقر بأن الوجود الروسي في المنطقة دائم أو شبه دائم، وبدأت تتعامل مع روسيا كأنها جار ومهم في الوقت نفسه. وقد تعززت هذه العلاقة أيام الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الذي تراجع عن تهديداته بإسقاط النظام السوري مقابل تدمير ترسانة سوريا الكيميائية، بعد أن تدخلت روسيا وسمحت باعتماد القرار 2118 (2013) الذي أنشأ لجنة دولية للإشراف على تدمير الترسانة الكيميائية، وتفكيك المختبرات والمواد الخام ووسائل التخزين والإنتاج كافة، وكل ذلك ينتهي لمصلحة إسرائيل الاستراتيجية يستحق بوتين الشكر عليها. وقد تكفلت إسرائيل بتدمير ما تبقى من تلك البرامج، حيث قامت بتدمير المنشآت المتعلقة بالبحث، خاصة معهد البحوث في جمرايا الذي قصف أربع مرات أولها في 31 ديسمبر 2013، بعد اعتماد القرار المذكور، وآخرها في فبراير 2018. والغارات الثلاث الأخيرة تمت أثناء الوجود الروسي في سوريا بدون أي اعتراض. نفهم من كل هذه المقدمات أن هناك تفاهمات روسية إسرائيلية وبصمت سوري، على الأقل من بعض أقطاب النظام من بينه بشار الأسد، على تقليم أظافر إيران في سوريا وإعادتها إلى الحدود الإيرانية. وعندها ستقوم روسيا بتقديم كل العون العسكري المطلوب لإيران، لتعزيز أمنها القومي أمام التهديدات الأمريكية وقواعدها الثابتة المنتشرة في دول الخليج، أو أساطيلها المتحركة بالقرب من مياه الخليج. أما أن تزاحم إيران روسيا في منطقة نفوذها الاستراتيجية، فغير مقبول لا من روسيا ولا من إسرائيل ولا حتى من رأس النظام السوري. ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التقارب التركي الروسي، لدرجة أن الطرفين يتعاملان الآن وكأن إيران غير موجودة في الملف السوري، كما اتضح في اتفاقيات وقف إطلاق النار في منطقة إدلب في مارس 2020.
مع مجئ الرئيس الأمريكي بايدن واحتمال عودة الولايات المتحدة للاتفاقية النووية لعام 2015، فإننا سنشهد تحسنا كبيرا في العلاقة بين روسيا وإسرائيل، التي فترت قليلا خلال سنوات ترامب الأربع، فخلال فترة أوباما، وكنوع من التعبير عن عدم رضى إسرائيلي لسياسته تجاه إيران، قام نتنياهو بزيارات لموسكو أكثر من واشنطن، كان يستقبل في كل مرة استقبال الأبطال، حيث فرشت له السجادة الحمراء، وخصه بوتين في إحدى زياراته عام 2016 بمفاجأة لم يتوقعها، حيث تحول إلى مرشد سياحي وطاف به في خبايا الغرف المغلقة والخاصة داخل مبنى الكرملين وأطلعه على بعض النسخ النادرة من التوراة، وقدم له شروحات وافية عن القطع الأثرية والفنية والتاريخية المعروضة في تلك الغرف. كما قام نتنياهو وزوجته بزيارة معرض افتتح في قلب موسكو تحت عنوان «فتح الباب لإسرائيل» وهو عبارة عن معرض تفاعلي ذي أبواب تسعة، يدخلك كل باب إلى زاوية من الحياة في إسرائيل. وقال نتنياهو في المعرض «ما بيننا وبين روسيا ليس فقط علاقات ثقافية وتكنولوجية، كما يبدو في هذا المعرض، بل أكثر بكثير. هناك جسر إنساني ممثل بوجود أكثر من مليون متحدث بالروسية يدخلون في نسيج بلادنا دما ولحما، جاؤوا كمواطنين في إسرائيل وكلهم تعاطف مع الدولة ويحملون لها أجمل النوايا».
التسوية الشاملة في الشرق الأوسط
إذا فهمنا الإشارات الصادرة عن إدارة بايدن الجديدة حول تسوية نزاعات الشرق الأوسط، بطريقة شاملة خاصة عند حديثه عن ربط العودة للاتفاق النووي، بكف تدخلات إيران في الشؤون الإقليمية في المنطقة، فإننا نستطيع أن نتوقع أن هناك محاولة لتسوية شاملة للنزاعات في الشرق الأوسط، تشمل إيران وسوريا وفلسطين وليبيا، وإلى حد ما العراق. ولحل الأزمة السورية بالتحديد لابد من دور أساسي لروسيا وتركيا وإيران، بحيث تنسحب إيران وتركيا من الأراضي السورية، ويتم التوافق بين الولايات المتحدة وروسيا على برنامج الإعمار ودخول المرحلة الانتقالية في سوريا، كما نص على ذلك بيان جنيف الصادر بموافقة الدول الخمس دائمة العضوية في 30 يونيو 2012، ثم أعيد ذكره في قرار مجلس الأمن 2254 (2015) وهو ما لا يمكن تطبيقه إلا بتوافق أمريكي روسي على شكل النظام في سوريا، بعد إقفال ملف الحرب. وهذا ينطبق على قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فالطرف الفلسطيني مدعوما بمصر والأردن والسعودية، يريد دورا لروسيا في الحل وعدم تفرد الولايات المتحدة بالحل. روسيا وتركيا موجودتان أيضا في ليبيا وإيران في اليمن والعراق وسوريا. تشابكت المصالح والأدوار ولا حل لأزمة دون حلول للأزمات الأخرى ولم يعد ممكنا الآن استبعاد طرف من اللاعبين الأساسيين. إنها فرصة سانحة لإدارة بايدن لتأخذ المسائل بنظرة شاملة، حتى لو بدأت بحل أزمة برنامج إيران النووي، فأزمة اليمن ثم ليبيا وسوريا وصولا إلى أم القضايا فلسطين.
عبدالحميد صيام
القدس العربي