قوات الاحتلال تواصل شن حملات دهم للمنازل وهدم للقرى في الضفة والقدس، وتهاجم صيادي غزة بالقذائف، ولا يحرك العالم ساكنا، أمام مشاهد القتل المتعمد والقنص المباشر في كل مرة لفلسطينيين عزل، لا يشكلون أي خطر على عناصر الجيش الإسرائيلي.
وما يحدث من تجاوزات تتخطى كل الأعراف الإنسانية، وتتحدى القوانين الدولية ومعاهدات حقوق الإنسان بشكل مستمر، هي نتيجة ذلك الحرص الأمريكي في تمكين إسرائيل من التمتع بهامش واسع من الحرية، في التعامل مع المناطق المحتلة، ضمن استراتيجية متكررة، كانت في كل مرة تطمح إلى تغيير الشرق الأوسط، بدءا بغزو العراق. ومهما تكن تصرفات تل أبيب متناقضة مع السياسة الأمريكية المعلنة، فإن التحالف الفريد يبقى قائما، إذ يصعب تقديم مثال آخر أقدم فيه أي بلد على تزويد بلد آخر بمثل هذا المستوى من الدعم المادي والدبلوماسي، على امتداد هذه المدة الزمنية مثل ما حدث بين واشنطن وتل أبيب.
وكان من الممكن، كما ذهب إلى ذلك ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية، فهم مثل هذا «السخاء» لو أن إسرائيل تشكل ذخرا استراتيجيا حيويا يماثل فترة الحرب الباردة، أو كان الدعم الأمريكي المستدام منطويا على ضرورة أخلاقية ملزمة. ولكن لا معادلة أخلاقية في هذا السياق سوى خدمة مصالح صهيونية أمريكية مشتركة، فالولايات المتحدة ليست «دولة لديها أخلاق حتى تراجعها أو تراعيها» بتوصيف جريء ومعتاد لتشومسكي. وشعارات إيثار الغير، والكرم الذي تدعيه تحت عناوين المساعدات والمنح لبعض الدول العربية ليست إلا أدوات يُحسن السماسرة استغلالها. وبالمحصلة، فإن السياسة المتبعة في مجال حقوق الإنسان ما تزال انتقائية. وتجدر الإشارة إلى أن أمريكا لم تستطع أن تعول على إسرائيل حين أثارت الثورة الإيرانية المخاوف بشأن أمن نفط الخليج سنة 1979، وقد اضطرت وقتها إلى ايجاد قوات الانتشار السريع. وإلى الآن لا تستطيع التعويل على الكيان الصهيوني في ما يخص تطورات الملف الإيراني. وحرب الخليج الأولى كشفت كذلك عن حقيقة أن إسرائيل بدأت تتحول إلى عبء استراتيجي، حين بقيت متفرجة، ولم تتجرأ أمريكا أن تطلب مساعدتها، خشية استثارة حلفائها العرب. السياسة الأمريكية المبنية بالكامل على المصالح، بدل القيم انحرفت بالقيم الإنسانية، ولم تعترف بالتعسف الذي حدث في استعمال أسلحة أمريكية من قبل إسرائيل، ورغم إدراكها بأن دعمها الأعمى للكيان الاستعماري ساهم في تعقيد علاقاتها مع العالم العربي، فإنها إلى الآن، لا تقدم شيئا لفلسطين، أو تصلح من موقفها المنحرف تجاه القضية العادلة، وما يفوق الأربعة عقود من النشاط الدبلوماسي الأمريكي من جانب واحد، يهدف إلى تحقيق قبول لإسرائيل إقليميا ودوليا قد أثمر نتائج عكسية. وزادت سياسات تل أبيب الإجرامية والعنصرية بدعم أمريكي، من عزلتها، ومن سخط المجتمع الدولي عليها، وقرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير بشأن «الحالة الفلسطينية» وولايتها القضائية على الأراضي المحتلة أثبت ذلك. وقد أحدث اهتزازا وإرباكا داخل الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل. وكان الأجدر بصانعي القرار في واشنطن أن يقرأوا مذكرات القادة الإسرائيليين من أمثال موشي دايان، الذي أقر في مذكراته في سياق حديثه مع هنري كيسنجر أثناء حرب أكتوبر 1973 بأن «الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة المستعدة لتقف في صفنا، وتأملي الصامت كان يشي بأن من الأفضل لأمريكا أن تكون داعمة للعرب».
مهما تكن تصرفات تل أبيب متناقضة مع السياسة الأمريكية المعلنة، فإن التحالف الفريد يبقى قائما
ومنذ أحداث 11 سبتمبر، وجدت أمريكا وإسرائيل مسوغا جديدا لتبرير التحالف الوثيق بالقول، إن كلتيهما مهددتان من قبل جماعات إرهابية «اسلامية» ومن قبل الدول المارقة التي تدعم هذه الجماعات، وتسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل. وأصبح يُنظر إلى الكيان المنبوذ في المنطقة بوصفه حليفا أساسيا في الحرب على الإرهاب، لأن أعداءه هم أعداء أمريكا. وكان يجب بالدرجة الأولى ألا يتمكن الأمريكيون من الاعتقاد بأن الدعم الذي يعتبر دعما أعمى تقدمه أمريكا لإسرائيل هو أصل كراهية كثير من المسلمين للولايات المتحدة. واحتاج تعزيز التضامن بين العالم الغربي وإسرائيل، أن يمر عبر تصنيع عدو مشترك. واستُغلت الدعاية الغربية بشكل مطرد، وتلونت الأيديولوجيات، وتقلصت حدة التنديد بتجاوزات حقوق الإنسان، تماما كتلك المقارنة لدانييل ليندنبرغ بين المحافظين الأمريكيين الجدد الذين تحولوا من ليبراليين إلى محافظين جدد، والمثقفين اليهود القادمين من اليسار، والذين أصبحوا مدافعين بلا قيد أو شرط عن إسرائيل، وفقدوا كل أوهام معاداة الاستعمار ومعاداة العنصرية. وهكذا عقد دعاة النموذج الغربي تحالفا مع الكيان الصهيوني، رغم أن أسلافهم كانوا يقعون بسهولة في معاداة السامية. وأصبح معظمهم يرى وجود صلة بين الأخطار التي تهدد العالم الغربي، وهذه الصلة مكونة من خمسة حروف «إ.س.ل.ا.م». ليس مستغربا أن لا يتعاطف العالم الغربي مع فلسطين، وأن يطغى الصمت على ممارسات استعمارية وحشية، تعالت الأصوات الغربية سابقا على مآسي شبيهة بها أو أقلها حدة. فمنذ عام 1996 سجل باسكال بونيفاس في إرادة العجز مثل هذا التخاذل المفضوح، عندما لاحظ تعاطف المثقفين الغربيين الشديد إزاء الشعب البوسني، وكيف أنه ليس له معادل سوى لامبالاتهم الصامتة، القديمة والثابتة بالقدر نفسه إزاء شعب آخر يتعرض بدوره إلى الظلم بالقوة، أي الشعب الفلسطيني. فالتعاطف مع المأساة البوسنية الذي يُقدم بوصفه دفاعا عن المبادئ العالمية ليس على الأغلب سوى نتيجة تأنيب ضمير غير معترف به، أو يصعب الاعتراف به، على صمت تجاه قمع وحشي مازال متواصلا إلى الآن أمام أنظار العالم.
الوقت قد حان للاعتراف بأن الولايات المتحدة لا تستطيع حل النزاع الاسرائيلي الفلسطيني، ولا الاستمرار في توفير الحماية لتل أبيب، في ما يخص العواقب القانونية والسياسية الدولية لتصرفها المنحرف أخلاقيا. وعلى الإدارة الأمريكية الجديدة أن تفهم أنه بمواصلة تماهي واشنطن المطلق مع مثل هذا التصرف، لن تربح شيئا وستخسر الكثير، وعليها أن تجعل إسرائيل تحس بأن حمايتها لها ليست تلقائية ودائمة في كل الظروف.
لطفي العبيدي
القدس العربي