حسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية فإن رئيس النظام السوري بشار الأسد اقترح، في لقاء مع صحافيين موالين له حول مظاهر الأزمة الاقتصادية في البلاد (من انهيار سعر العملة إلى النقص الحاد في الوقود والخبز) أن يكف الإعلام السوري عن عرض برامج الطبخ كي لا تزعج الملايين من مواطنيه المعدمين والجوعى والنازحين بصور مآكل يصعب عليهم شراؤها.
تنطق تصريحات الأسد ـ الذي تسبب بواحدة من أكبر الكوارث السياسية في التاريخ المعاصر ـ بما يسمّى في الأدبيات السياسية العالمية «تفاهة الشرّ» التي تكشف عن نفسها في تعليقات مخيفة في خلوها من العاطفة والمنطق معا، فالأسد، الذي روّج في بداية عهده لكونه مشغولا بالتحديث الرقمي والتكنولوجي لبلاده، يطلق هذا التصريح وهو يعلم أن السوريين، مثلهم مثل قبائل غابات الأمازون، وسكان الأصقاع المعزولة والبعيدة كسيبيريا وآيسلندا ومنغوليا، صارت لديهم أشكال للتواصل مع العالم ورؤية ما يحصل فيه، بما في الأسرار السياسية التي كانت أجهزة الأمن تستطيع محاصرتها في السابق، وأنهم ليسوا مسجونين، كما كان آباؤهم، في عهد والده المورث حافظ الأسد، في إطار مشاهدة تلفزيونهم المحلّي وحسب.
من هذه التصريحات التي لا تكف عن مناقضة بعضها بعضا، أن الأسد ألقى في اجتماع في كانون الأول/ديسمبر الماضي خطبة في جمع من رجال الدين أخبرهم فيها أن «العدو الحقيقي للإسلام ليس الخارج وإنما من أبناء الدين الإسلامي أنفسهم» وأن من خرجوا من المساجد للتظاهر ضد نظامه وهتفوا الله أكبر «هم ملحدون» وبعد تحميل «العدو الداخلي» المسؤولية وتبرئة الخارجي هاجم الأسد في الخطاب نفسه العدوّ الخارجي الذي يعمل «على نسف الدين والمجتمع» هو «الليبرالية الحديثة» التي «تتناقض مع طبيعة الإنسان».
إضافة إلى الخطابات الأولى التي قدّمت خطاب الأنظمة العربية المعهود عن «الإرهاب» و«العمالة للخارج» أنتجت آلة خطب الأسد أفكارا تحسب له، من قبيل تشبيه المتظاهرين المعارضين بالجراثيم، وهذه الفكرة القادمة من إرث الطبيب الذي استدعي من لندن على عجلة بعد وفاة والده ليرث الحكم، تم تطويرها لاحقا بطبعة أقرب إلى المفاهيم النازيّة، حين تحدث عن سعادته بتخلّص مناطق سيطرته من المعارضين، ومن «البيئة الحاضنة» التي تعدّ بالملايين، مما خلق، حسب قوله، «مجتمعا متجانسا».
في سباق دفاع الدكتاتور المستميت عن نفسه، وتجريمه لكل من يعارضه، يُفترض أن يبوأ الأسد مكانا عاليا بين أقرانه ونظرائه العرب والأجانب، ففي حين يكتفي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بترديد أسطوانة من مقطعين يحمّل فيهما مسؤولية تردي الأوضاع في بلاده إلى الإرهاب وزيادة عدد السكان، فإن رئيس النظام السوري لا يكف عن الإبداع الذي يتفوق فيه على نفسه وأقرانه في كل مرة يتفوه بها بتصريح جديد.
من الفلتات الثمينة التي فاه بها الأسد في لقائه الأخير مع الإعلاميين الموالين كانت تأكيده لهم إن نظامه لن يعقد مصالحة مع إسرائيل (في الوقت الذي تتزايد الإشارات إلى طموح متزايد بأن تقوم إسرائيل بإنقاذه من أزماته) وأنه لن يشرع زواج المثليين، كما لو أن مسألة المصالحة مع إسرائيل وزواج المثليين هما من الحجم والوزن نفسيهما.
يحب الأسد التصرّف مع الجمهور المجبور على سماعه على أنه فيلسوف يحاضر في الجهلة أو أنه فاز بالرئاسة بشكل ديمقراطي، فيشرح لرجال الدين معنى الإسلام، ويقول لنظرائه الزعماء العرب إنهم «أنصاف رجال» وينظر للإبادة بالحديث عن الجراثيم والمجتمع المتجانس، ولكن هذا المحاضر العظيم الذي يتفلسف في كل شيء لا يستطيع أن يرى الشيء الوحيد الحقيقي وهو أنه مسؤول مباشر عن تدمير بلده وتحطيم شعبه وفوق ذلك كله الاستتباع للقوى الأجنبية التي تحافظ على حكمه.
القدس العربي