سوريا مهمة جدا.. ولكن لا أحد يعرف لماذا

سوريا مهمة جدا.. ولكن لا أحد يعرف لماذا

يترسخ انطباع بين الضباط الأميركيين بأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة المتعلقة بالأزمة السورية لم تؤت نفعا، وأن أولويات الإدارات المتعاقبة منذ تفجّر الأزمة في ذلك البلد قبل عقد من الزمن لم تكن تستهدف تحقيق السلام أو مساعدة السوريين على إحلال نظام ديمقراطي وإزاحة نظام بشار الأسد من الحكم. هذا الأمر دفع الباحثين للتساؤل حول الدوافع الحقيقة التي تجعل واشنطن متمسكة بأجندتها تجاه دمشق رغم الخسائر.

واشنطن – تحرك مشاعر عدد من الضباط الأميركيين خليطا كامنا من الجدل والانتقادات حول السياسات الخارجية، التي تتبعها الولايات المتحدة في سوريا، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بنشر القوات في الشرق الأوسط بعد أن أثبتت الاستراتيجية المتبعة منذ عشر سنوات إهدار الكثير من الدماء والأموال دون تحقيق الأهداف المرجوة.

وعملت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما على تركيز وجود عسكري لها في المنطقة يكون مدروسا ومركزا لدائرة عملها في المفاصل الحساسة ومن بينها المناطق الحدودية بين سوريا والعراق لقطع خطّ التواصل البرّي الحرّ، الذي عملت إيران على إنشائه بين طهران ودمشق ثم بيروت عبر الأراضي العراقية، لكن تلك السياسة بدأت تتغير مع الرئيس السابق دونالد ترامب.

ومع بقاء نظام بشار الأسد في الحكم، يبدو أن هناك اقتناع بين الأميركيين بأن ثمن الحرب في سوريا كان باهظا، وأنه لا نية للانسحاب من ذلك المستنقع بداعي الحفاظ على الأمن القومي.

التردد في الانسحاب
في أكتوبر 2019 وبعد أيام من إعلان ترامب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، رصد ستيفن كوك كبير زملاء إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي نموذجا عن حالة الامتعاض التي تنتاب الضباط مفادها أن الصراع على بعد عدة آلاف من الأميال لا علاقة له بهم أو بالولايات المتحدة، بل يؤكدون أنه يتوجب على الرئيس أن يعيد القوات إلى البلاد، وأن ينهي هذه الحرب التي لا تنتهي.

وهذا الأمر أيقظ في رأس كوك فكرة كانت تراوده على مدى السنوات السبع الماضية، وهي فكرة الفشل التام لمجتمع السياسة الخارجية في تقييم ما كان يحدث في سوريا بشكل صحيح، وفهم كيف أثر ذلك على المصالح الأميركية، واقتراح طريقة للمضي قدمًا.

ويبدو أن ترامب – على الرغم من فترة رئاسته العويصة – قد تساءل بشأن سوريا والشرق الأوسط وقال “لماذا نفعل ما نفعله؟”. وبما أنه لم يحصل على إجابة مرضية، أعلن الانسحاب.

الآن وفي الذكرى المشؤومة التي أغرقت السوريين في حرب لا نهاية لها منذ عقد مضى، لا يبدو أنه تم حسم النقاش الدائر حول ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة حيال صراع أودى بحياة الكثيرين وشوه الكثيرين وهجّر نصف الشعب السوري من ديارهم، وزعزع استقرار منطقتين مهمتين من العالم.

ستيفن كوك: سوريا بقعة من الأرض تساوى فيها حضور القوى العالمية

وتساءل كوك في تحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، هل ينبغي لإدارة بايدن أن تتصالح مع الرئيس السوري بشار الأسد؟ وهل تأمل في أن يتحول العالم بطريقة ما حتى يكشف الانفتاح الدبلوماسي عن نفسه؟ وهل تؤمن الإدارة الأميركية بأن الأزمة الاقتصادية التي أحاطت بلبنان تقوض الدعم للنظام؟

وهنا يعتقد كوك أن جميع الأطراف لا تريد فعل المزيد مع سوريا، تاركين صانعي السياسة دون خيارات جيدة ولا إجابات واضحة. وربما يرجع ذلك إلى أنه على الأقل في النقاش الذي دار على مدار السنوات العشر الماضية، لم يكن هناك تحليل دقيق للمخاطر التي قد تواجه الولايات المتحدة في سوريا، إن وجدت.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اتبعت الولايات المتحدة سياسات في الشرق الأوسط تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية: ضمان التدفق الحر لموارد الطاقة من المنطقة، والمساعدة في ضمان أمن إسرائيل، والحفاظ على القوة الأميركية في الشرق الأوسط، بحيث لا يمكن لأي دولة أو تحالف دول أن يتحدى تلك المصالح.

وإلى جانب ذلك يضيف المحللون منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب إلى أهداف السياسة الخارجية الأميركية.

وعلى افتراض أن هذه الأهداف تظل أسس السياسة الأميركية، إذن كيف تخبر هذه الأسس المحللين وصناع القرار بكيفية تعامل واشنطن مع سوريا؟ إن النهج الحالي الذي يتسم بعدم التدخل في الصراع السوري قد يكون مزعجًا من الناحية الأخلاقية ولكن يمكن دعمه من الناحية الاستراتيجية وهذا غالباً يكون الرابط غير المريح للسياسة الخارجية الأميركية، وهو عبء عدم القدرة على التوفيق بين القيم والمصالح.

وعندما اتضح أن ترامب لم يكن ينوي سحب القوات الأميركية من سوريا بشكل فعلي وأعلن أنها ستبقى “للنفط”، أثار هذا التصريح التساؤلات؛ لم تكن سوريا على الإطلاق مُصدِّرة رئيسية للنفط، على الرغم من أن الاحتياطيات الموجودة لديها كانت مستغلة في العقد الماضي من نظام الأسد والمهربين الأتراك وتنظيم داعش لجني الأموال.

وكان رفض الثلاثة أطراف لهذه الفرصة أمراً منطقيًا. ومع ذلك، فإن الإعلان عن أن الأميركيين سيبقون من أجل النفط قد تكون طريقة ملائمة لإخفاء الحقيقة المحرجة المتمثلة في أن الرئيس يتوقع مسبقًا هزيمة تنظيم داعش.

ولكن قوات سوريا الديمقراطية – وبشكل أساسي وحدات حماية الشعب – لا تزال تحارب أتباع أبوبكر البغدادي بمساعدة الجنود الأميركيين وكل هذا يعني أنه لا يوجد شيء ما حدث في سوريا على مدى العقد الماضي يهدد التدفق الحر لموارد الطاقة من المنطقة.

في ما يتعلق بإسرائيل يعتقد المحللون أن سوريا تشكل تهديدًا محتملاً لأمنها. لكن الأداء الضعيف لقوات الأسد خلال العقد الماضي عمل على تهدئة هذا القلق. ومع ذلك فإن لتهديد الحقيقي من وجهة نظر إسرائيل هو إيران، التي يبدو أنها تريد البقاء في سوريا لفترة طويلة، ما يمنح الإيرانيين القدرة على إمداد حزب الله بسهولة أكبر.

لكن الإسرائيليين لم يتقبلوا الأمر وشنوا حملة جوية ضارية ضد الإيرانيين ووكلائهم في كل من سوريا والعراق. وفي المقابل، أثبتت طهران أنها غير قادرة على الرد بفعالية، ما دفع إلى استنتاج أن الإسرائيليين قادرون على الاعتناء بأنفسهم في الصراع السوري.

وفي ما يتعلق بالحفاظ على القوة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، فإن سوريا بقعة من الأرض تتساوى فيها القوى. وبالتأكيد، أعجب قادة المنطقة باستعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتدخل وإنقاذ حليف من الهزيمة، على عكس ما اعتبروه عجز الولايات المتحدة عندما تعلق الأمر بالرئيس المصري السابق حسني مبارك.

وهذا الاعتقاد أعطى الروس دفعة على حساب الولايات المتحدة، لكنهم الآن مثقلون بالأسد وبالصراع الذي لا يبدو أن له نهاية في الأفق. والأهم من ذلك، أنه لا يوجد شيء في الصراع في سوريا قد أضر بقوة الولايات المتحدة وقدرتها على الدفاع عن مصالحها.

وفي ما يتعلق بمنع انتشار الأسلحة النووية، قام الإسرائيليون بالمهمة الصعبة في عام 2007 عندما دمروا سراً المنشأة النووية السورية. ومع ذلك، لا تزال هناك مشكلة الأسلحة الكيميائية السورية، والتي كان من المفترض أن يتخلوا عنها في صفقة توسط فيها بوتين في 2013.

لكن الأسد لم يكن متعاونًا بشكل كامل. وعلى الرغم من ذلك، لا تحظى هذه القضية بالاهتمام الكامل لأن الأسلحة الكيميائية التي كان من المفترض أن يتخلى عنها الأسد كانت وستُستخدم على الأرجح ضد السوريين أنفسهم. ورد ترامب على هجوم كيمياوي للنظام على المدنيين بعد فترة وجيزة من تنصيبه، ومع ذلك لم يحدث هذا الرد فرقًا في مسار الصراع.

يمكن تقديم الحجة التي يمكن للولايات المتحدة أن تواصل من خلالها مهمة مكافحة التطرف في سوريا، فقد أصبحت سوريا دوامة تضم العديد من الميليشيات المتنافسة، بما في ذلك جماعات المتطرفين.

ويرى كوك الذي أصدر قبل فترة أحدث مؤلفاته بعنوان “الفجر الكاذب: الاحتجاج والديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد” أن بعضا من هذه الميليشيات قد تتراجع، لكنها مع ذلك تظل باقية، وبالتالي تحافظ الولايات المتحدة على علاقتها بوحدات حماية الشعب رغم اعتراض تركيا حليفة الناتو، التي تصر على أن الجماعة لا تختلف كثيراً عن حزب العمال الكردستاني، وهي منظمة إرهابية شنت حربًا على الأتراك والمصالح التركية.

وهذه هي طبيعة الصراع في سوريا وعلى الرغم من غضبهم تجاه الولايات المتحدة، يتعاون المسؤولون الأتراك مع تنظيم القاعدة لدفع أجندتهم المعادية للأكراد. ونظرا لطبيعة الصراع السوري وأعداد الميليشيات الكبيرة المتورطة في الصراع، فمن المعقول أن يظل صانعو السياسات يقظين بشأن التهديد هناك.

كافة الأطراف لا تريد فعل المزيد في الملف السوري ما يترك صانعي السياسة الأميركية دون خيارات واضحة

وبالنسبة إلى الرئيس جو بايدن، فإن المأساة السورية تتضخم وذلك تزامناً مع إعلانه التزامه بالقيم في مقدمة سياسته الخارجية. وإذا سعى إلى نبذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بحيث يجعل هذا التصرف مقرونا بحقوق الإنسان بشكل مركزي في العلاقات الأميركية -السعودية وهو نفس الأمر مع مصر وإلى تجاهل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب جرائمه، إذن فإلى أين يقود ذلك واشنطن بشأن سوريا؟

وبحسب المحلل كوك فمن المحتمل ألا توجد الإجابة في أي مكان حتى لو ظلت إدارة بايدن تركز على القيم وهذا لأنه على الرغم من كل القسوة التي مارسها النظام السوري على شعبه، فمن المرجح أن يتوصل بايدن إلى نفس النتيجة التي توصل إليها العديد من الضباط الأميركيين.

ويبدو أنه لا يوجد ما يكفي من المخاطر التي قد تواجه المصالح الأميركية والتي من الممكن أن تدفع الولايات المتحدة إلى فعل أكثر من مجرد فرض عقوبات، ومكافحة الإرهابيين، والاحتجاج على تجاوزات الأسد العديدة في حق المدنيين على أمل أن يتغير شيء ما يضع نهاية لكابوس سوريا.

ولذلك فإن الحجة التي تدعم التقاعس عن العمل في سوريا تفوق بكثير تلك التي تحث على العمل وهذا أمر غير أخلاقي بالطبع، لكن هذه هي مأساة سوريا التي يجب على الولايات المتحدة قبولها في النهاية.

العرب