الخرطوم – أحدثت تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم انقلابا شاملا في علاقاته مع السودان، وكان ذلك الوضع يبدو محفوفا بالمخاطر وانطوى على مغامرة بالغة أدت إلى خسائر كبيرة للخرطوم في علاقتها مع دول عربية أخرى تنبذ أسلوب أنقرة في دعم جماعات الإسلام السياسي المنتشرة في المنطقة العربية.
وجراء ضغوط العقوبات الأميركية وبحثا عن متنفس اضطرت السلطات إبان حكم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير إلى وضع جميع اقتصاد السودان في السلة التركية، ووقع البلدان العشرات من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية وبدا هذا الرهان محاولة للهروب من عزلتهما الدولية المتفاقمة مما أدى في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية تجلت في العامين الأخيرين.
وأبدت أنقرة طيلة سنوات اهتماما كبيرا بالسودان، ليس لكون النظام الذي كان يحكم هذا البلد ذا مرجعية إسلامية فحسب بل لجهة موقعه الجغرافي الإستراتيجي، وكذلك ما يملكه من ثروات طبيعية منسية، والتي كانت أحد الدوافع الرئيسية لتتالي زيارات المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، حينما زار الخرطوم في ديسمبر 2017 وعقد مع السلطات آنذاك العديد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية الثنائية.
غير أن سقوط نظام البشير شكل خسارة كبيرة لتركيا، فقد كان يؤمّن لها موطئ قدم ثابتا في المنطقة العربية ومنطقة القرن الأفريقي. ويبدو أن أنقرة تحاول الآن التخفيف من وقع ذلك بالسعي إلى ترميم علاقتها بالخرطوم عبر بناء أسس تعاون جديدة مع السلطة الانتقالية من بوابة الاقتصاد.
وبعد أن سعت تركيا التي فقد نفوذها بريقه في السودان إثر الإطاحة بالبشير قبل نحو عامين إلى إحداث اختراق في جدار الوضع الجديد بالبلد العربي، عبر المراهنة على اللعب على ثنائية المدنيين والعسكر المضطرة إلى التعايش في السلطة خلال الفترة الانتقالية بالنظر للاختلافات الجوهرية بين الجانبين، حوّلت أنظارها اليوم إلى كيفية إعادة نفوذها الاقتصادي هناك.
وتتضح معالم ذلك من خلال ما نقلته وكالة الأنباء السودانية الرسمية في وقت سابق هذا الأسبوع عن وزير التجارة السوداني علي جدو بعد لقائه بالسفير التركي لدى الخرطوم عرفان نذير أوغلو، حينما قال “نحتاج إلى تطوير علاقتنا مع تركيا، إذ يمكن للسودان أن يستفيد من علاقته مع تركيا في تطوير اقتصاده وتطوير التبادل التجاري. تركيا أيضا هي المدخل إلى أوروبا”.
وربما يكون انعقاد اللجنة الاقتصادية المشتركة بين البلدين في يوليو المقبل لبحث تفعيل الاتفاقيات بينهما، الموقعة قبل أربعة أعوام وعلى رأسها اتفاقية التجارة الحرة إلى جانب قرابة عشرين اتفاقية تعاون في مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية والمصرفية، مدخلا جديدا للأتراك إلى هذا البلد. لكن على الأرجح لن يكون التعامل بين الطرفين كما هو الحال أثناء فترة البشير رغم حاجة كليهما إلى مثل هذه الدفعة.
ومع كل ذلك تدرك أنقرة أن السلطة الانتقالية في السودان تركز اهتمامها على ترتيب الأوضاع الداخلية، بما يشمل القيام بإصلاحات جوهرية لاقتصاد البلاد المنهار، وإحلال السلام في مناطق النزاع والتهيئة لتحول سياسي شامل
في البلاد، وبالتالي فإن هذه السلطة ليست في وارد الانخراط في أي أحلاف إقليمية قد تشغلها عن الوضع الداخلي الحساس.
وفي ظل هكذا وضعية ترى تركيا أن الأفضل هو فتح قنوات تواصل مع هذه السلطة ومحاولة كسب ثقتها، وهو أمر على ما يبدو لن يكون سهلا لجهة الخلفية الفكرية لنظام الرئيس رجب طيب أردوغان، وأيضا المخاوف من أن فتح الأبواب مجددا أمام أنقرة قد تستفيد منه المنظومة القديمة التي لا تزال تسيطر على العديد من مفاصل الدولة.
وتشكّل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان لدول مثل تركيا مدخلا لزيادة استثماراتها في هذا البلد من خلال تقديم حوافز مغرية. ويؤكد المتابعون أن أنقرة التي تطمح إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي بغية إنقاذ اقتصادها تتخذ من الاستثمار الاقتصادي والعمل الخيري مدخلين أساسيين للتغلغل في الدول، خاصة تلك التي تعاني أزمات.
ومنذ سنوات تعمل تركيا، كما هو الحال بالنسبة إلى الصين، على تنويع مناطق نفوذها والبحث عن أسواق استهلاكية جديدة في قارة أفريقيا، وسط هواجس من إمكانية تعرضها لهزّات كتلك التي تعرّض لها اقتصادها في السنوات الأربع الأخيرة، وزادت من أوجاعه قيود الإغلاق بسبب أزمة جائحة كورونا.
وقد عانى السودان لفترة طويلة من متاعب اقتصادية كبيرة بسبب التقلبات السياسية لنظام البشير الذي اعتاد على تغيير تحالفاته بين فترة وأخرى وفق ما تقتضيه المصالح. وقد ازدادت متاعب البلاد الاقتصادية قبل سنوات عندما راهنت على التقارب الاقتصادي مع إيران.
العرب