يقدّم مشهد التوتّر الأمريكي ـ الروسي الحالي اختلافا ملحوظا عن المشهد الذي ساهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ترتيبه مع نظيره الروسي، فخلال عام 2018 احتلّت أمريكا المرتبة الأولى في الاستثمارات في روسيا، كما زادت موسكو استثماراتها في الأوراق المالية الحكومية الأمريكية عام 2019 لتبلغ قرابة 11.5 مليار دولار.
لقد واجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف نظيره الأمريكي جو بايدن له بـ«القاتل» بطريقة «دبلوماسيّة» تريد القول إن «القيصر» لا يخضع للاستفزاز، وأنه يفضّل النقلات الباردة أحيانا، والجريئة أحيانا أخرى، التي تميّز الروس، والتي تجري على رقعة الشطرنج المحلية والعالمية، ولا مانع، في أثناء ذلك، من تقسيط بعض الهجمات اللفظية المداورة التي تقوم بتحقير الخصم وإضعاف معنوياته.
على الصعيد الداخليّ قام بوتين بتشديد الإجراءات ضد المعارضة الروسية، وخصّ أليكسي نافالني، زعيمها العائد من ألمانيا بعد شفائه من محاولة تسميم (وهي البصمة الخاصة بالمخابرات الروسية) بمحاكمة سريعة أودت به إلى سجن قاس ليعاني فيه من البرد ومنع العلاج الطبي، متبعا ذلك بإصدار عقوبات سجن على مناصرين له لمطالبتهم بتطبيبه.
أما على الصعيد الخارجي فبدأ الكرملين بتحمية جبهة أوكرانيا عبر حشد قواته المسلحة على الحدود ودعم الانفصاليين الذين يسيطرون على مناطق حدودية والضغط على كييف للتفاوض مع المتمردين وتشريع وجود حكم ذاتي تابع لروسيا عبر القيام بمناوشات مع القوات الأوكرانية كان آخر مفاعيلها مقتل جندي أوكراني وجرح آخر.
شمل التصعيد أيضا سوريا، وهي ساحة سيطرة ونفوذ لروسيا، تسمح لها بالوصول إلى البحر المتوسط، وإمداد قوات فاغنر في ليبيا بطائرات ومعدات ثقيلة، كما استطلعت موسكو مناطق جديدة للنفوذ، فحضر رئيس أركانها احتفالا بتأسيس جيش ميانمار، في إعلان ضمنيّ عن دعم الجنرالات الانقلابيين، كما وسّعت سيطرتها في القطب الشمالي لتصل إلى حدود 700 ألف كيلومتر، وهي مساحة تقارب ضعفي مساحة ألمانيا.
من ناحيتها، قامت واشنطن بتجهيز عقوبات جديدة للرد على معاملة موسكو للسجين المعارض نافالني وقضايا أخرى، مما وضع ضغوطا على الروبل والأسواق الروسية، ودفع المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف للقول إن موسكو تستعد «لأسوأ السيناريوهات» كما أعلن مسؤولون أمريكيون وأوروبيون استعدادهم لدعم كييف في حال حدوث «عدوان عسكري» من روسيا.
تتابعت هذه الأحداث بعد تصريح بايدن الخطير لكنّها بالتأكيد لا تتعلق بزلة لسان أو هجوم لفظي بل باستراتيجية أمريكية جديدة تحاول تعويض الخسائر الاستراتيجية الكبيرة التي لحقت بالنفوذ الأمريكي في أكثر من منطقة من العالم، غير أن المواجهة مع روسيا، في الوقت الذي تصعّد فيه مع الصين، وتتابع حصار كوريا الشمالية، ستقود، على الأغلب، إلى تفكيك بعض مواقع السيطرة لموسكو في ليبيا وسوريا، وإبعاد تركيّا عنها، وحل ملف «الاتفاق النووي» مع إيران من دون تنازلات كبيرة في اليمن والعراق ولبنان.
القدس العربي