أقدم ثلاث دول في الشرق الأوسط، هي مصر وتركيا وإيران، وكل منها قادرة على لعب دور مهم وإعادة التوازن في الملفات المهمة في المنطقة. سمح تراجع دور مصر الإقليمي للأخريين (تركيا وإيران) بأن يتمددا في المنطقة، فمصر هي الدولة الوحيدة القادرة على التصدّي لأي غزو أجنبي، حينما تكون في كامل قوتها وعافيتها. في أعقاب انقلاب 3 يوليو (2013) العسكري، وإطاحة الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، حدثت القطيعة السياسية بين تركيا، متمثلة في النظام السياسي للرئيس أردوغان، والدولة المصرية متمثلة في نظام 3 يوليو بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقبل أسابيع، تم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، المصري والتركي، أو ما سمي في الإعلام المصالحة المصرية التركية. وجاء الاتفاق بعد قدوم الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني الماضي، واتباع سياسة إطفاء الحرائق في الشرق الأوسط، ففي فترة ولاية الرئيس السابق، ترامب، تمدّدت روسيا أكثر في الشرق الأوسط. وقد ولد الخلاف المصري التركي فراغا، وساهم، في الوقت نفسه، في تمدد موسكو أكثر، فقد استفادت منه ووظفته لصالحها، ما سمح لها بتعزيز عودتها إلي الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها وإعادة تمركزها. وهذا بالطبع إلى جانب النفوذ الإيراني الذي بدا واضحا في مناطق عدة، وصل إلي تقاسم سورية بين روسيا وتركيا وإيران، من دون أن يكون لأي دولة عربية أخرى أي مكان، أو أي دور يذكر. الآن وبعد قدوم بايدن، ومن أجل ترتيب الأوراق وإعادة رسم الخرائط في المنطقة، وتحجيم الدب الروسي، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ووضع المتمرّد الإيراني تحت المجهر مرة أخرى، لا بد من التفاهم بين أكبر دولتين في المنطقة، تركيا ومصر. وهو أمر صادف رغبة عندهما في الوصول إلى تفاهمات مبدئية في ملفات عديدة مختلفة، في مقدمتها الملف الليبي، وجلب الهدوء إلي الحدود المصرية الغربية من خلال الانتخابات الليبية، والوصول إلى تفاهمات بعد عدة اجتماعات بين الفرقاء الليبيين. وبالطبع من مصلحة مصر أن يكون هناك هدوء علي حدودها، فأمن مصر القومي يبدأ من خارج حدودها، لكن للهدوء في الداخل الليبي شروطا أخرى، ستمتحن قدرته علي الصمود.
لن تفرّط تركيا في المعارضة المصرية المقيمة على أراضيها، فهي أداة ضغط مهمة وورقة رابحة في سياستها الخارجية عند التفاوض مع مصر
النقطة الأخرى، والتي لعبت دورا مهما في هذا التقارب، تتعلق بغاز شرق المتوسط، فبعد إعلان مصر عن اتحاد شرق المتوسط مع قبرص واليونان، الغريم التقليدي للأتراك، إلى جانب إسرائيل، كان المتوقع بموجبه أن تصبح مصر مركزا عالميا لإسالة الغاز الطبيعي، لكن ما حدث بعد الاتفاق بشأن إنشاء خط الغاز، بين إسرائيل واليونان وقبرص، من دون وجود مصر، جعل القاهرة تعيد التفكير في الأمر، فلكي تكون مصر مركزا عالميا للإسالة لا بد أن يمر خط الغاز عبر المناطق التركية في شرق المتوسط. وانعكس هذا الإدراك المصري في الاتفاق الذي كانت قد عقدته مصر مع اليونان قبل عامين تقريبا بشأن ترسيم الحدود المصرية، وتركت فيه مصر جزءا كبيرا لليونانيين، كان الغرض منه تطميع الأتراك أكثر، وقد فهموا الرسالة وتفاعلوا معها، وعرفوا أن ذلك في مصلحتهم، فترسيم الحدود بين مصر واليونان شمل فقط جزيرتي كريت ورودوس، ولم يتطرق إلى جزيرة كاستيليريزوا، ولم تمس مصر الجرف القاري التركي. وهنا كان لا بد من التوافق، حتى يحصل كلا الطرفين على ما يريدان. كما أن للنظام المصري هدفا آخر من ذلك التقارب، وهو المعارضة المصرية المدعومة تركياً، ولديها قنوات فضائية بات لها جمهور بين أوساط الشعب المصري. وعلى الرغم من التوتر بين الطرفين بعد انقلاب 2013 ، فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين لم تنقطع، حيث وصل التبادل الاقتصادي بينهما في 2018 إلى ثمانية مليارات دولار، كان يعني أن الأمور الاقتصادية والمصالح ستتغلب علي أي عوائق، حتى ولو كانت على حساب المعارضة الموجودة في إسطنبول.
قدرة استمرار التقارب المصري التركي مسألة غير محسومة
ولكن منذ راجت الأخبار عما سميت المصالحة، ثم عن طلب الجانب التركي من القنوات التابعة للمعارضة في إسطنبول الالتزام بميثاق الإعلام التركي، ذاعت أقاويل عديدة عن وضع تلك المجموعات المعارضة في تركيا ومستقبلها، نتيجة التفاهمات التي استجدّت بين البلدين، وبدأ طرح أسئلة عديدة بشأن وضع هذه المعارضة في تركيا، والتي ينتمي معظمها لجماعة الإخوان المسلمين، وكذلك القنوات التابعة لها، هل ستطردها تركيا من الأراضي التركية، أم تسلمها أم تغلق قنواتهم؟
في ظل السياسة البراغماتية التي تتبعها، لن تفرّط تركيا في تلك المعارضة، فهي أداة ضغط مهمة وورقة رابحة في سياستها الخارجية عند التفاوض مع مصر، كما أن كثراً من المعارضين حصلوا على جوازات سفر تركية وإقامات دائمة، وأصبح وضعهم قانونيا. وإلى هذا الأمر، فإن الجانبين، المصري والتركي، لا يثقان ببعضهما، وفي أي لحظة قد يفشل هذا التقارب. وبالتالي، لا يمكن التفريط في تلك الأداة المهمة، وحتى لو أخرجت فيما بعد تركيا عددا منهم، فسيكون إلى دول حليفة لها، من دون خسارتهم بالصورة التي يتخيلها بعض المراقبين، فمستقبل هذا التقارب التركي المصري مرهون أيضا بمدى فك ارتباط السياسة المصرية بالسياسة السعودية والإماراتية من جانب، وكذلك قدرة مصر علي تحييد تركيا في ملفات مهمة، مثل ملف سد النهضة وغيره. لذا فهذا التقارب بين الجانبين مصلحي، مرتبط بعوامل مختلفة، لكن قدرة بقائه أو استمراره مسألة غير محسومة، قد تجيب عنها الأيام المقبلة.
تقادم الخطيب
العربي الجديد