“ذكرى سقوط النظام العراقي السابق” مناسبة لاستذكار “الخيبات” وفرصة للتغيير

“ذكرى سقوط النظام العراقي السابق” مناسبة لاستذكار “الخيبات” وفرصة للتغيير

تمثل السجالات بين العراقيين بشأن تعريف لحظة الإطاحة الأميركية بنظام الرئيس الأسبق صدام حسين في 9 أبريل (نيسان) 2003، النقطة الأبرز كل عام في التعاطي مع هذه الذكرى، التي تبيّن إلى حد كبير مدى الانقسام الشديد في توصيفها، بين داعم لهذا التدخل للخلاص من سطوة النظام السابق ودكتاتوريته، وبين مَن يعتقد أنه مثل نقطة شروع جديدة في سياق هدم بنيان الدولة من خلال الجيش الأميركي.
وعلى الرغم من الخلافات حول توصيف تلك اللحظة، إلا أن ثمة إجماع عراقي بدأ يتشكل خلال السنوات الأخيرة حول خيبة الأمل من إمكانية أن يقود الشكل السياسي الحالي إلى بناء نموذج مغاير للسلطة والنظام السياسي لما كان عليه في فترة حكم صدام حسين.

متغيرات وخيبات أمل

وكان لحصاد السنوات الـ18 الماضية الأثر الأكبر في تحفيز حالة اليأس وخيبة الأمل تلك، خصوصاً بعد وصول معدلات الفساد إلى مراحل غير مسبوقة، وتدهور اقتصاد البلاد وتردي الواقع الأمني.
ومثّل استخدام العنف المفرط من قبل نظام ما بعد سقوط صدام حسين، في مواجهة كل الفعاليات الاحتجاجية والسياسية المناهضة للسلطة خلال المراحل السابقة، انعطافة جديدة في تعاطي العراقيين مع حلم التحول الديمقراطي وإرساء دعائم الحريات بشكل عام.
في السياق، قال الباحث الأكاديمي حيدر سعيد، إن “العراق بلا شك خاض تجربة انتقال ديمقراطي”، ما بعد أبريل عام 2003، مشيراً إلى عدم نجاح تلك التجربة.

وتقف عدة أسباب خلف عدم نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في العراق، وفق سعيد، لعل أبرزها “عدم وجود اتفاق على المسار الانتقالي، بين الطرف الأجنبي المتمثل بالولايات المتحدة التي صممت هذا المسار، وبين النخب السياسية المحلية التي قاومت التصور الأميركي وحاولت فرض تصوراتها”.
ولفت سعيد إلى أن “النخب السياسية المحلية انطلقت في تصورها للمسار الانتقالي، من عقد تاريخية، ما يعني أنها صيّرت المسار الانتقالي فضاء صراعياً”، لافتاً إلى أن “هذا الأمر من بين عوامل أخرى، أدى إلى عدم تحقيق توافق أو إجماع داخلي على الانتقال ومساره”.
ولعل تلك الأسباب قادت في النتيجة، بحسب سعيد، إلى “تفجر الانتقال إلى صراع مسلح ودام، بعد أقل من ثلاث سنوات على سقوط الدكتاتورية”. وختم قائلاً إن “المفارقة تتمثل في عدم سعي الطبقة السياسية الحاكمة إلى معالجة هذا الخلل الجوهري في مسار الانتقال في العراق، بل كان جل مسعاها يتمثل في محاولة تثبيت سلطتها، على التوازنات التي أفرزها أبريل 2003”.
ويرى مراقبون أن انتقال السلطة والثروة من نظام صدام حسين الاستبدادي إلى جماعات طائفية وعرقية مسلحة تسيطر على الدولة، مثّل العائق الأكبر في طريق تحقيق آمال العراقيين بالتحول الديمقراطي.

أكتوبر 2019 مقابل أبريل 2003

وعلى الرغم من وجود شكل من التعددية السياسية إلا أنها بحسب باحثين، “قناع لنوع جديد من الاستبداد” يخلو من ملامح الديمقراطية إلا في سياق ممارسة الحق بالانتخاب، بينما تحيط بالانتخابات شبهات عدة، فضلاً عن ظهور المحاصصة الطائفية كعنوان رئيس لهذا النظام، الأمر الذي قاد في النهاية، إضافة إلى إخفاقات أخرى، إلى انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 العراقية.
ورأى الناشط فارس حرّام، في الذكرى السنوية لسقوط النظام السابق، أنها “مناسبة يتذكر فيها العراقيون بوعي أو من دون وعي، أن الحرية السياسية التي نالوها بعد إسقاط صدام كانت عبارة عن حرية مفروضة وتغيير قسري خارجي لم يكن للعراقيين دور في نيلها، على الرغم من نضالهم الطويل ضد الدكتاتورية والدماء والمقابر الجماعية”.
ولعل هذا الأمر كان السبب الرئيس في تحفيز نوع من “الاتكالية في أوساط المجتمع العراقي”، وفق حرّام، الذي يبين أن تلك الاتكالية “أخذت موقعها العميق في الذات العراقية، فبدل تحفيز المجتمع على أخذ دوره في صناعة المستقبل، حفزت الاتكالية حالة انتظار الفاعل الخارجي لإحداث التغيير”.
وأشار حرّام إلى أن احتجاجات أكتوبر 2019، مثلت “الأمل لصناعة لحظة مقابِلة للحظة 2003، لاستعادة العراقيين المبادرة والاعتماد على أنفسهم لإحداث التغيير السياسي الحقيقي وإنهاء حالة الاتكالية التي لا تزال تتصف بها الغالبية العظمى من العراقيين”.
وذهب حرّام إلى أن “مظاهر تلك الاتكالية لا تزال حاضرة في الأوساط الاجتماعية العراقية”، على الرغم من مرور 18 عاماً على سقوط النظام السابق، مبيناً أنها تبدو واضحة “في تعاطي المجتمع مع الاحتجاجات الأخيرة من خلال انتظار فعل الشباب وتركهم وحيدين في الساحات، أو من خلال التعويل على الانتخابات، على الرغم من التاريخ السيء للعملية الانتخابية تزويراً أو إعادة إنتاج للوجوه ذاتها، بسبب المجاملة في الخيارات والاتكالية على الغير في فهم المرشحين والثقة بهم”. وإضافة إلى “لحظة التغيير القسري”، تحدث حرّام عن أن “قيام الولايات المتحدة في العراق بدور إنشاء الدولة الجديدة سواء على مستوى إدارة الوزارات وتأسيس العملية السياسية أو من خلال القيام بكل المهمات الأمنية، في الفترة بين العامين 2003 و2011، مثّل أحد أكبر محفّزات تعزيز الاتكالية لدى المجتمع العراقي”.
وكانت لحظة التأسيس تلك، كما يعبّر حرّام، “بداية انطلاق التأثير الخارجي المباشر في صناعة مستقبل البلاد، وأدت في النهاية إلى جعل العراق ساحة صراع معقد بين القوى الخارجية الإقليمية والدولية، في مقابل غياب الدور الوطني في الفضاء السياسي”.

وقد يمثل الحديث الذي بدأ يتنامى في الأوساط العراقية خلال الفترة الأخيرة بشأن انتظار فاعل خارجي لإحداث التغيير في البلاد، تجلياً واضحاً لفشل نظام ما بعد صدام حسين في التحول الديمقراطي أو بناء شكل للدولة يكون مقنعاً للمجتمع العراقي.
وخلّف غياب الدور المباشر للمجتمع العراقي في تغيير نظام صدّام وصياغة الدولة الجديدة لمرحلة ما بعد عام 2003، “جرحاً نرجسياً واضحاً في عمق الذات العراقية”، كما يصفه حرّام، وهو الأمر الذي أسهم من بين عوامل أخرى في “إضعاف الشعور بالمسؤولية وتدمير روح المجتمع وإشاعة فكرة انتظار التغيير من الآخرين”.

وأكد حرّام أن النظام السياسي العراقي الحالي يحمل في داخله تناقضات جسيمة، أبرزها “أنه من جانب النص الدستوري يمثل نظاماً تعددياً ديمقراطياً، لكن من جانب الحياة الواقعية تسيطر مظاهر الاستبداد وفرض الإرادة على الشعب بوسائل مختلفة، بحيث أصبح النظام من حيث الواقع عبارة عن دكتاتورية مقنّعة”.

وختم قائلاً إن “الحديث عن إصلاح النظام من داخل الطبقة السياسية الحاكمة بات غير ممكن، لا بل بات مضيعةً للوقت”، مبيناً أن إنقاذ الوضع في العراق يمر عبر ثلاثة خيارات، الأول يتمثل في “التأسيس لاختراق الطبقة السياسية الحاكمة بطبقة جديدة من داخل قوى التغيير تؤسس لعقد اجتماعي – سياسي جديد، ولروح عراقية جديدة غير اتكالية، تؤسس لقيم أخلاقية جديدة للدولة وللمجتمع معاً، وهذا الخيار هو الأسلم، لكنه الأشد صعوبة من بين كل الحلول، بسبب وجود ميليشيات مسلحة ترى في أي تغيير خطراً عليها”. أما الخياران الثاني والثالث فهما بحسب حرّام، “خطيران وقد يقوداننا إلى المجهول، الأول يتمثل في إسقاط النظام، والثاني دخول قوة خارجية لتغيير الوضع، وهنا سندخل في ذات الحلقة المفرغة التي نتجت عن الاحتلال الأميركي في عام 2003”.

رفض النظام والتحاق الشيعة والكرد بالسنة

وتبدو الانتفاضة العراقية حاضرة في غالبية النقاشات بشأن ذكرى سقوط النظام، إذ مثلت الخيار العراقي بالتغيير مقابل خيارات الفاعل الخارجي في التأثير على شكل السلطة والنظام في البلاد.
ويرى مراقبون أن الانتفاضة العراقية كانت رد الفعل الأكبر على فشل النظام السياسي، وتسلط الميليشيات المدعومة خارجياً على الدولة خلال السنوات الماضية، فيما تبيّن المواقع التي حدثت فيها الانتفاضة في المدن الشيعية أن المجتمعات التي رحبت بتغيير النظام عام 2003، باتت تعيش أعلى معدلات التشاؤم من إمكانية أن يقود الفاعلون السياسيون إلى خطوات تؤدي إلى إصلاح النظام.
وقال رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، إن “مستويات الأمل بخصوص مستقبل البلاد سياسياً واقتصادياً كانت عالية في السنوات الأولى التي تلت سقوط النظام السابق، على الرغم من النظرة العامة للقوات الأميركية بأنها قوات احتلال”. وأضاف أن “معدلات الأمل كانت متباينة بين المكونات المختلفة في العراق، حيث كان الشيعة والكرد فرحين بالتغيير، بينما كان الاستياء واضحاً على المجتمع السني”.
و”مع مرور السنوات كانت الأوضاع تزداد سوءاً”، على حد وصف داغر، فقال إن “سيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة من البلاد أحدث تغييراً كبيراً في الرأي العام، وهو الأمر الذي قاد إلى التحاق الشيعة والكرد بالمجتمع السني من حيث رفض النظام السياسي”.
وختم أن “السنوات الأخيرة شهدت تزايداً في النظرة السلبية إزاء السلطة، حيث تعطي الانتفاضة العراقية الأخيرة انطباعاً واضحاً عن مؤشرات التشاؤم وعدم الثقة”.
ومقابل كل العوامل السياسية والاجتماعية التي حصلت بعد الغزو الأميركي، يبدو أن للوضع الاقتصادي حيزاً كبيراً في توصيف الحالة العراقية بعد عام 2003، إذ باتت البلاد لا تنتج شيئاً يذكر، فضلاً عن زيادة واضحة في معدلات الفقر والبطالة، الأمر الذي كان محفزاً لانطلاق احتجاجات على النظام السياسي، وهو ما يراه مراقبون مقدمةً لانفجار أكبر، ربما يقود إلى تغيير جديد في خريطة السلطة خلال السنوات المقبلة.

احمد السهيل

اندبندت عربي