ظهور وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش بتلك الإطلالة الجذابة والحضور الذهني اللافت والذكاء الواضح في انتقاء المفردات المناسبة لخطابها الدبلوماسي خلال أول زيارة خارجية بعد توليها مهامها رسميا أدتها الأربعاء إلى تونس، بالتزامن مع الجولة الخليجية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، والتي شملت الكويت وأبوظبي والرياض، يعطي الكثير من الأمل في أن البلد العربي المتربع على أطول ساحل من الضفة الجنوبية للمتوسط يسير في الاتجاه الصحيح نحو تأكيد دوره الإقليمي والدولي، وتقديم صورة جديدة ومختلفة عمّا كان سائدا خلال السنوات العشر الماضية، أساسها أن ليبيا قادرة بالفعل على أن تكون منطلقا للإتيان بالجديد، لاسيما عندما تتجاوز فوضى التموقعات والحسابات الحزبية والأيديولوجية، وتدخل مرحلة البراغماتية السياسية التي تنبني على أساسيْ السيادة والمصلحة الوطنيتين.
يمكن لليبيا أن تتحول إلى دولة أمن واستقرار وتقدم ورفاه، وأن توفر لشعبها مقومات الرخاء الكامل، وأن تدخل مرحلة النهوض الاقتصادي والاجتماعي بما تمتلك من مقدرات وقدرات، وبما تختزن في أراضيها من ثروات مكتشفة وغير مكتشفة، ومن ثروات طبيعية يمكن أن تتحول إلى مصادر إنتاج صناعي وزراعي وسياسي وثقافي مهم، ومما تحتكم عليه من طاقات شابة ومواهب حقيقية في كل المجالات، وكذلك من رصيدها الكبير من الكفاءات المنتشرة في الداخل والخارج والعاملة في مختلف المجالات، إضافة إلى موقعها الإستراتيجي المهم الذي يجعل منها جسرا للتواصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وبين ضفتي المتوسط، وبين أوروبا وأفريقيا.
لا يمكن الوصول إلى الحل الحقيقي إلا بفسح المجال للسلطات الجديدة بأن تستعمل كل صلاحياتها وتمارس جميع مهامها دون عراقيل، وتعلن عن مبادراتها الجريئة دون خشية
هذه المعطيات يدركها العالم، وهناك إجماع إقليمي ودولي على أن ليبيا يمكن أن تتحول إلى بلد استثنائي ورائد في محيطها، ولكن ذلك يحتاج ليس فقط إلى طي صفحة الصراعات الدموية والحروب العبثية، ولكن أيضا إلى إنهاء كل مظاهر الخروج عن الدولة. حل الميليشيات والقضاء على الجماعات الإرهابية وجمع السلاح المنفلت وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة واستبعاد أمراء الحرب من المشهد العام أصبحت حاجة ضرورية لتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية وتفعيل العفو العام والدخول تحت خيمة المصالحة الوطنية الشاملة بغطاء اجتماعي ينسجم مع طبيعة الخصوصيات الثقافية للبلاد، وفسح المجال أمام الجميع للتنافس الانتخابي بضمانات القانون وبمرجعية الولاء للوطن، والإيمان بأن السيادة الوطنية هي الركيزة الأصلية والأساسية للدولة.
مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن هناك تجاذبات لا تزال تعمل على عرقلة الحل، وهي مرتبطة بمصالح شخصية وفئوية وحزبية وأيديولوجية ومناطقية، وتدار من غرف مظلمة في الداخل والخارج، وتحاول أن تفرض منطق المغالبة، وهناك من لا يزال يراهن على الانقسام وتشتيت الصفوف، ويدفع نحو إفشال حكومة الوحدة الوطنية، ليس فقط بتعطيل مسارات الحل، ولكن كذلك بالتغلغل في مراكز القرار لضربها من الداخل، والحؤول دون إنجاز الكثير من الخطوات الضرورية لتيسير عمل السلطات الجديدة، ومنها إقرار موازنة العام 2021 والتصديق عليها، والانتهاء من الصراع حول المناصب الرئيسة للمؤسسات السيادية، والقطع مع الخطاب الإعلامي المتشنج والعدواني، والإفراج عن الأسرى والسجناء والمحتجزين.
ولعل من أخطاء خارطة الحل السياسي أنها حافظت على نفس آليات اتفاق الصخيرات، وبالتالي على نفوذ من وصفتهم ستيفاني وليامز بالديناصورات، وأعطت شرعية لمن لا شرعية لهم، ووضعت السلطات التنفيذية الجديدة في قبضة قوى ترفض الاعتراف بالتحولات الحاصلة وترى أن نجاحها في إفشال حكومة الوحدة الوطنية، وفي إدامة حالة التشنج والمواجهة بما يناقض الأهداف المعلنة من قبل المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة والأطراف الإقليمية والدولية.
يمكن لليبيا أن تتحول إلى دولة أمن واستقرار وتقدم ورفاه، وأن توفر لشعبها مقومات الرخاء الكامل، وأن تدخل مرحلة النهوض الاقتصادي والاجتماعي بما تمتلك من مقدرات وقدرات
لا يمكن الوصول إلى الحل الحقيقي إلا بفسح المجال للسلطات الجديدة بأن تستعمل كل صلاحياتها وتمارس جميع مهامها دون عراقيل، وتعلن عن مبادراتها الجريئة دون خشية من حائط الصد المتمثل في الغلاة والمتطرفين من أصحاب المصلحة في استمرار الأزمة، وأن تستفيد من الدعم الدولي والأممي في تنفيذ أجندتها، وألا تخضع لأية ضغوط، وألا تضع مواقفها وخياراتها الداخلية تحت ذمة أي طرف، وأن تمارس سلطاتها كاملة بمعايير السيادة الوطنية التي لا تتناقض فقط مع التدخل الخارجي، وإنما كذلك مع الانفلات الداخلي سواء من قبل الخارجين عن القانون أو من قبل الساعين إلى بناء دول داخل الدولة.
الترحيب الذي قوبل به الدبيبة في دول الخليج، والذي قوبلت به المنقوش في تونس، يشير إلى وجود واجهة جيدة في هذه المرحلة المفصلية لليبيا الدولة الحديثة المدنية المعتدلة وذات الإرث التاريخ الحضاري الخالد والموقع المهم في المنطقة والعالم، وإلى حالة من الانتعاش للدبلوماسية الليبية في اتجاه إعادة تحديد أولوياتها وتجاوز أخطاء وتخندقات السنوات الماضية، وذكاء في التعامل مع مفردات الحسم في هذا الظرف بالذات. فأن يكون خبير اقتصادي ورجل أعمال ومهندس مشاريع كبرى على رأس الحكومة، وأن تكون امرأة أكاديمية متخصصة في إدارة السلم والصراع وبملامح منفتحة على العصر والعالم على رأس وزارة الخارجية، فإن ذلك من مبشرات الانطلاق نحو ليبيا جديدة مختلفة لا تحتاج إلّا إلى الحزم الكامل في التصدي لمن يحاول العودة إلى ما قبل الدولة والتاريخ.
العرب