ضج الرأي العام في تركيا، الأسبوع الماضي، ببيان نشره 104 من الأميرالات المتقاعدين، انتقدوا فيها حدثين، الأول هو تصريحات لرئيس البرلمان مصطفى شنتوب، على إحدى القنوات التلفزيونية، قال فيها إن إلغاء معاهدة مونترو أمر وارد نظرياً، والثاني هو انتشار صورة لأميرال تركي، على رأس عمله، بثياب «إسلامية» خاصة أثناء حضوره لمناسبة دينية أقامتها إحدى الجماعات الصوفية.
وقد هاجمت وسائل الإعلام الموالية للحكومة البيان والموقعين عليه معتبرين أن الأمر يتعلق بعمل انقلابي. وفي صباح اليوم التالي تم اعتقال عشرين من الموقعين على البيان وإحالتهم إلى التحقيق.
الواقع أن عدداً من الملابسات المحيطة بالبيان ونشره قد سوّغ مثل تلك الاتهامات، أولها توقيت نشر البيان، قرابة منتصف الليل، وهو توقيت يستدعي إلى الأذهان مباشرةً سوابق إنقلابية في تاريخ تركيا الحديث؛ وثانيها صيغة ترويسة البيان التي خاطبت «الشعب التركي العظيم» وهي عبارة يستخدمها عادةً ضباط انقلابيون؛ وثالثها مجرد اجتماع أكثر من مئة شخص، لهم ماض عسكري، على بيان شديد اللهجة، الأمر الذي يمكن تأويله بمعنى «التآمر». ولكن، بالمقابل، لا يعقل أن يقوم بانقلاب عسكري ضباط بحرية، متقاعدين فوق ذلك، بدون أي تنسيق مع ضباط من سلاحي البر والجو، على رأس عملهم، بمن في ذلك ضباط عاملون في سلاح البحرية أيضاً. فهؤلاء الموقعون على البيان لا يملكون أي أدوات أو وسائل تتيح لهم القيام بانقلاب عسكري، سلاحاً أو سلطة تراتبية على القيادات الأدنى أو شبكة علاقات داخل المؤسسة العسكرية، أو هذا على الأقل ما يبدو إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النيابة العامة قد أطلقت سراحهم جميعاً بعد التحقيق معهم، وإن كان قد فرض عليهم عدم مغادرة المدن المقيمين فيها بانتظار انتهاء التحقيقات.
رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان أدلى برأيه في الموضوع، فانتقد البيان والموقعين عليه والإيحاء الانقلابي لنصه وتوقيته، لكنه لم يقتصر على ذلك، بل أبدى رأيه أيضاً في المسألتين اللتين استثارتا حنق ضباط البحرية، أي معاهدة مونترو وضابط البحرية المتأسلم، فكان رأيه في الموضوعين متفقاً مع رأي بيان الأميرالات. كان هذا هو القول الفصل بشأن الموضوع، وربما هو ما يفسر سرعة إطلاق سراح الأميرالات.
ماذا قال هؤلاء بشأن الاتهامات بالمحاولة الانقلابية؟ وما هي خلفيات البيان الذي أثار كل تلك الضجة؟
معاهدة مونترو التي تم التوقيع عليها في العام 1936 تتعلق بتنظيم الملاحة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وتعود السيادة عليهما، وفقاً للمعاهدة، إلى الدولة التركية
صرح بعضهم لوسائل الإعلام مظهرين دهشتهم من الاتهامات بحقهم في وسائل الإعلام، ومعلنين رفضهم لأي عمل انقلابي. وقالوا إن بيانهم كان مجرد تعبير عن الرأي أمام حدثين أثارا حفيظتهم، والتعبير عن الرأي بصورة سلمية هو مما يكفله القانون والدستور.
ولكن لماذا شعر 104 من ضباط البحرية المتقاعدين بالحاجة إلى إبداء رأيهم بشكل جماعي كما حدث، في الوقت الذي كان بإمكان كل منهم أن ينتقد ما رآه خاطئاً في مسلك ضابط البحرية العامل، أو في تصريحات رئيس البرلمان. وقبل ذلك: ما هي معاهدة مونترو التي دار حولها هذا السجال؟ معاهدة مونترو التي تم التوقيع عليها في العام 1936 تتعلق بتنظيم الملاحة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وتعود السيادة عليهما، وفقاً للمعاهدة، إلى الدولة التركية، مع شروط محددة فيما يتعلق بعبور السفن الحربية، مقابل ضمان حرية عبور السفن المدنية والتجارية. وتمنح المعاهدة الدول المشاطئة للبحر الأسود أفضلية استخدام المضائق بالنسبة للسفن الحربية، فيما تحدد شروطاً على السفن الحربية التابعة للدول الأخرى.
ثار الجدل بشأن هذه المعاهدة بالارتباط مع الجدل الدائر، بين السلطة والمعارضة، بشأن مشروع «قناة إسطنبول» الذي تنوي الحكومة الشروع في تنفيذه، فيما تعترض المعارضة التركية على المشروع لأسباب داخلية لها علاقة بكلفة المشروع والأضرار المتوقعة على بيئة المدينة، والجهات التي يمكن أن تستفيد من المشروع بصورة امتيازية، كشراء عقارات على ضفتي القناة المفترضة وتحقيق أرباح خيالية من ذلك. لكن البعد الخارجي، الدولي، لم يغب أيضاً عن السجالات. فشق هذه القناة يوفر نوعاً من الالتفاف على معاهدة مونترو، بمعنى إمكانية استخدام القناة، في حال تنفيذ المشروع، لأغراض حربية لا تسمح بها المعاهدة. ومعروف أن الدولة الأكثر استياءً من وجود المعاهدة هي الولايات المتحدة التي لا يمكنها إرسال قطع من أسطولها الحربي إلى البحر الأسود إلا تحت سقف الشروط المحددة فيها. وهذا الموضوع يكتسب راهنيته من التطورات الأخيرة في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، بما يهدد باندلاع حرب جديدة بين البلدين. ومعروف أن موقف القيادة التركية أقرب إلى أوكرانيا منه إلى روسيا، على رغم العلاقة الروسية التركية في الصراعات الإقليمية، وبخاصة في سوريا. وأرسلت الولايات المتحدة، فعلاً، قطعتين من أسطولها الحربي إلى البحر الأسود، تحت سقف شروط المعاهدة الدولية، كنوع من ردع لروسيا بشأن هجومها المحتمل على شرقي أوكرانيا، في حين رد الكرملين بتحذير الأمريكيين من أي عمل عدائي ضد روسيا.
ثمة من يقولون إذن إن مشروع قناة إسطنبول، من زاوية النظر العسكرية، هو بتشجيع أمريكي، أو رغبة من أنقرة في إقامة توازن بين واشنطن وموسكو لكي لا تبقى تركيا تحت رحمة ابتزاز عسكري روسي.
في الختام لا بد من ذكر تصريحات لأحد الأميرالات ممن لم يوقعوا على البيان، تشير إلى حدوث «شيء» أوقع الموقعين عليه في فخ. فالبيان بصيغته الأولى التي عرضت للتوقيع لم يكن يتضمن عبارة «إلى الشعب التركي» وعبارات أخرى لها إيحاء انقلابي، وإنما تمت إضافتها بعد الحصول على التوقيعات. أما النشر فقد كان من المفترض أن ينشر بعد يومين، لكن الموقع الألكتروني المقرب من أحد الأحزاب القومية قام بنشره في ذلك التوقيت المشؤوم.
في الحياة السياسية التركية لا غرابة لحدوث أفخاخ من هذا النوع.
بكر صدقي
القدس العربي