الخرطوم – بدت الحكومة الانتقالية في السودان أكثر حرصا على استمالة التيار الصوفي ذي المقبولية الكبيرة لدى غالبية المواطنين، بعد أن أدركت أن التهميش الذي طال هذا المكون لن يكون في صالح السلطة، وأن مواجهة الحركة الإسلامية وخطابها التحريضي الذي تقيمه على التفاهمات بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبدالعزيز الحلو بشأن فصل الدين عن الدولة، تتطلب دعم الخطاب الفكري الوسطي الذي تتبناه الطرق الصوفية.
وغازل رئيس الوزراء عبدالله حمدوك زعماء الصوفية بزيارته إلى مسيّد وخلاوي الشيخ ياقوت وهو أحد أبرز شيوخ الصوفية الذين ناهضوا نظام عمر البشير وتناول إفطار رمضان مع مريديه وأبنائه وامتدح الدور الراسخ الذي ظلّت تلعبه الطرق الصوفية في نشر الإسلام في السودان وأفريقيا بصورة عامة، ودورها كذلك في دعم التعايش السلمي ورتق النسيج المجتمعي بالبلاد.
وحملت تصريحات حمدوك، على هامش الزيارة التي شدد فيها على أن الدين الإسلامي محمي بالإرث الصوفي ودعمه إنشاء معهد ديني في المنطقة لتعليم صحيح الإسلام، تأكيدا على أن الحكومة أدركت خطر الفجوة الاجتماعية التي تُركت وتستغلها الحركة الإسلامية لاستقطاب المواطنين وتشويه صورة السلطة الانتقالية برمّتها باعتبارها ساعية لهدم الدين وثوابته من خلال تبني رؤى تؤسس لدولة مدنية حديثة.
وجاءت زيارة حمدوك السبت الماضي بعد يوم واحد من تشييع الآلاف من أنصار الحركة الإسلامية جثمان أمين عام الحركة الزبير أحمد الحسن والذي وافته المنية، الجمعة، بعد نقله من محبسه بسجن كوبر إلى مستشفى بالخرطوم جراء تدهور حالته الصحية تزامنا مع زيادة وتيرة تحركات العناصر المحسوبة على الحركة، وحاولت أن تُعبّر عن وجودها من خلال موائد الإفطار الجماعية التي تنظمها وتستهدفها قوات الأمن.
ويجد خطاب الحركة الإسلامية آذانا صاغية في الشارع لأنه يستغل الأوضاع الاقتصادية الصعبة للوصول إلى فئات آمنت بالثورة وأهميتها بهدف تجنيد الشباب عبر التشكيك في جدوى الحراك الشعبي ضد نظام البشير، وتصوير جهود الحكومة في إزالة التمكين بأنها عدوان على الدين الإسلامي، وتربط الحركة بين الأمرين لتبرهن على أن استعادتها السلطة هي السبيل الوحيد لتحسين الأوضاع وتطبيق الشريعة الإسلامية.
متغيرات سياسية
يرى مراقبون أن هناك جملة من المتغيرات التي تدفع الحكومة لتوجيه بوصلة اهتماماتها نحو الصوفيين، لأن خطاب الحركة الإسلامية أخذ طابعا عدائيا بشكل علني خلال الأيام الماضية، وبدا أن المحركين لأفعال الحركة لديهم رغبة في إثارة العنف والبحث عن مظلوميات جديدة لعرقلة مسارات المرحلة الانتقالية.
وهدد أمين عام الحركة الإسلامية المكلف علي كرتي باللجوء إلى العنف في مواجهة ما وصفه بـ”العدوان والبغي والجرأة على الله”، قائلا “لن نظل مكتوفي الأيدي فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح، وأمام هذا التضييق فإن الحركة مستعدة للتضحية بأرواحها دفاعا عن الحق والعدل”.
واعتبرت قوى الحرية والتغيير أن كلام علي كرتي “يعكس دموية فكره الفاشي”، وأنّ “الحركة الإسلامية تحتاج إلى زمن طويل حتى تتجاوز عار العقود الثلاثة أمام الشعب السوداني”.
وتحاول الحركة الإسلامية استباق الحكومة في استقطاب الطرق الصوفية إليها وجذب مكوّناتها التي هادنت نظام البشير ولم تنخرط في معارضته بشكل مباشر والاستفادة من شعبيتها الجارفة بين المواطنين للانضمام إلى تيار إسلامي جامع يحمل اسم “أنا المسلم” أعلن عنه كرتي أخيرا، وهو كيان تزعم الحركة الإسلامية أن أهدافه دينية في مواجهة ما تسمّيه “التعدي على الدين الإسلامي” لكن جوهره سياسي للعودة إلى صدارة المشهد مجددا.
وهناك تغيير مهمّ حدث لأن تركيبة الحكومة التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي اليساري في السابق لم يكن ضمن أولوياتها التحالف مع التيار الصوفي، ورأت أن التعامل مع فلول نظام البشير لا بد أن يكون سياسيا فقط وليس من خلال الارتكان إلى مكون لديه جذور دينية وهو أمر اختلف الآن بوجود حزب الأمة القومي كطرف فاعل في توجهات الحكومة بتشكيلتها الجديدة، وهو في الأصل يمثل جماعة الأنصار الصوفية.
وانعكست توجهات الأنصار الذين تزعمهم الراحل الصادق المهدي رئيس حزب الأمّة على تحركات الحكومة الحالية، ومن المتوقع أن يكون هناك المزيد من الانفتاح على الطرق الصوفية وتوظيفها على المستوى الفكري للتعامل مع تحركات الحركة الإسلامية، خاصة أن حزب الأمّة يملك رؤية تقوم على أهمية توظيف المكونات الشعبية لتحصين الحكومة وتوسيع دائرة التحالف بما يضيّق الخناق على فلول البشير.
ولعب الشيخ محمد ياقوت الذي زاره حمدوك أخيرا، وهو أحد شيوخ الطريقة السمانية الطيبية، أدوارا بارزة في معارضة سياسات البشير وأسهم في إنشاء مجلس مُواز للمجلس الأعلى للتصوف الذي أنشأه النظام السابق وشارك بفاعلية في الاعتصامات التي انتهت برحيل نظام البشير.
وقال المتحدث باسم التحالف العربي من أجل السودان سليمان سري، إن استدارة المكون المدني نحو الصوفيين جاءت متأخرة للغاية لأنها لم تعط المساحة الكافية لخطابهم المعتدل ليتصدر وسائل الإعلام منذ نجاح الثورة، وما حدث أن الحركة الإسلامية مازالت مهيمنة على جزء كبير من المشهد الإعلامي الموجه للمواطنين.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن التوظيف السياسي لعادات السودانيين في شهر رمضان من جانب الحركة الإسلامية قابلته على الجانب الآخر تحركات سياسية من الحكومة باتجاه التيار الصوفي، وهي تبعث برسائل عديدة مفادها أن المواجهة الأمنية هي مصير التعامل مع عناصر النظام السابق والتحالف مع الطرق المناهضة له جزء من هذه المواجهة.
تفاعل اجتماعي
تحتاج الحكومة إلى جهود أكبر، إذا سعت فعلا للاستفادة من الحضور المجتمعي الواسع للصوفيين في السودان لأن الطرق الصوفية التي يتخطى عددها 40 طريقة وتنتشر على مساحات شاسعة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بحاجة إلى استراتيجية عامة للتفاعل مع الجهود الاجتماعية التي تقوم بها هذه الطرق وتلامس أدوار المجتمع المدني بمفهومه الحديث.
ولا تستهدف الطرق الصوفية من وراء أدوارها الفاعلة تحقيق مآرب سياسية وهو ما قد يشكّل عاملا مساعدا لانفتاح الحكومة عليها من دون أن تكون هناك فاتورة سياسية تجد نفسها مضطرة لدفعها، وأن تكون العلاقة قائمة على التقارب الفكري من خلال تجديد الخطاب الديني وتصويبه وتوظيف روح الصوفية المؤثرة في وجدان السودانيين لمجابهة خطابات التحريض والعنف السياسي على الجانب الآخر.
وتنطلق رؤية الأطراف المشاركة في السلطة الانتقالية، بما فيها حزب الأمة القومي، على ضرورة تسليط الضوء على الطرق الصوفية بمختلف اتجاهاتها والعمل على مساعدتها على تنظيم صفوفها والتخلص من الأداء التقليدي القائم على البطء وتعدد التوجهات ودعم جهودها في بناء مؤسسات دينية أكثر مدنية، وتقديم نفسها إلى المشهد السياسي بصورة حداثية، والتواصل مع قادة الثوار الشباب في الشارع.
وتبدو الاستدارة الحالية نحو الصوفيين غير واضحة النتائج لأن الأحزاب السياسية بحثت عن مصالحها في الوصول إلى السلطة دون مراعاة للحاضنة الشعبية التي أسهمت في إسقاط نظام البشير ويشكل التيار الصوفي أحدها، وهو أمر تستغله جيدا الحركة الإسلامية التي وجدت في الروح الصوفية طريقا للبقاء على رأس السلطة لأكثر من 30 عاما.
وكلما تأخرت الحكومة في الانفتاح على التيارات الصوفية كان الأمر أكثر صعوبة لأن الحركة الإسلامية وإن بدأت في خطط عمل سريعة على الأرض لاستعادة نفوذها غير أنها مازالت معزولة اجتماعيا ولا تحظى بتأييد شعبي قوي، وتعوّل على عامل الوقت لإعادة تثبيت دعائمها مرة أخرى، ووسيلتها لتحقيق ذلك الهدف ستكون استمالة الطبقات الاجتماعية التي يلعب الخطاب الديني دورا مهما في توجيه مواقفها السياسية.
وتبني الحركة الإسلامية تحالفاتها الجديدة على أطراف مغايرة لما كانت في السابق لأن غالبية قياداتها وشبابها التابعين لها فروا إلى قطر وتركيا على مدار العامين الماضيين وسط حالة من السيولة الأمنية سمحت بهروب تلك العناصر، وبالتالي فالتركيز حاليا يتم على تجنيد مجموعات شبابية قد تكون صوفية الهوى ويسهل استقطابها من خلال الخطاب الديني الذي يجري تصعيده في الوقت الحالي.
استطاعت قوى سياسية محسوبة على الحركة الإسلامية أن تستقطب بعض الطرق الصوفية لتكون طرفا في معارضة التطبيع مع إسرائيل، ودشنت حركة “قاوم” التي تضم عددا من الأحزاب المتحالفة مع نظام البشير حملة لحشد مشايخ الطرق الصوفية لرفض التطبيع في مارس الماضي، وعقدت لقاء مع الشيخ عبدالوهاب الشيخ الكباشي شيخ الطريقة القادرية الكباشية بشمال الخرطوم بحري، لبحث التعاون المشترك بين كافة الأجسام لمقاومة التطبيع.
والخطر الأكبر قد يكون عبر التحالف بين الحركة الإسلامية وبعض الصوفيين بشأن رفض تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، ولم يتحوّل هذا التحالف إلى أمر واقع حتى الآن، لكن استخدام المساجد في تسيير مظاهرات رافضة لهذا التوجه على مدار أشهر يشكل تهديدا للحكومة التي بدأت خطة تعزيز علاقتها مع الصوفيين.
الحركة الإسلامية تعمل على استقطاب الطرق الصوفية وجذب مكوناتها التي هادنت نظام البشير ولم تعارضه
وقال المحلل السياسي الشفيع أديب إن الحكومة في تشكيلتها الجديدة وضعت برنامجا شاملا حول كيفية التعامل مع الطبقات الاجتماعية المختلفة بعد أن انفصلت عن الواقع ووجدت أن هناك تحالفات خفية يجري تشكيلها وتأخذ أبعادا دينية بما يهدد التماسك الظاهر الذي يسود مكونات المرحلة الانتقالية.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن رئيس الحكومة الذي كانت صورته راسخة في أذهان المواطنين على أنه شخص يساري لا يهتم كثيرا بالجوانب الدينية غيّر من سلوكه وحرص على أن يظهر بملابس الإحرام في أثناء أداء العمرة مؤخرا ونظّم حتى الآن زيارتين لشيوخ الصوفية إحداهما في منطقة شمال بحري، والثانية أخيرا في جنوب الخرطوم، ومن المتوقع أن تطال زياراته مناطق أخرى الأيام المقبلة.
وبعثت الحكومة برسائل قوية إلى المجتمع الصوفي تؤكد أنها قريبة من توجهاته الفكرية وأن مضيّها قدما باتجاه فصل الدين عن الدولة لن يأتي على حساب تدينهم الفطري، والتأكيد على أن هناك فرقا كبيرا بين التشدّد الذي تدعو إليه الحركة الإسلامية وبين حرية ممارسة الشعائر الدينية لكافة المواطنين وفقا للمنطق الصوفي.
ولا يفصل العديد من المتابعين بين الجهود الفاعلة التي تقوم بها وزارة الأوقاف السودانية على مستوى مواجهة الأفكار المتطرفة عبر الاستعانة بشيوخ الأزهر لتدريب الدعاة وتبني المبادرات التي تعمل على الارتقاء بالخطاب المقدم من خلال المساجد، وبين التحركات الحالية نحو الصوفيين، لأن الحكومة بدت ساعية لتدعيم الثقة بينها وبين مريدي وأبناء هذه الطرق للتأكيد أنها تدعم الخطاب الوسطي وتجابه التطرف بجميع أنواعه سواء أكان إسلاميا أم علمانيا.
وأشار وزير الشؤون الدينية والأوقاف نصرالدين مفرح إلى أهمية الدور الذي تلعبه الخلاوي في نشر الدين الوسطي المتسامح الذي يقوم على المحبة، وأن زيارة حمدوك للشيخ ياقوت تعزز السلام الاجتماعي الذي تسعى الحكومة لتحقيقه.
ويظل الخطر كامنا في ردّ فعل الحركة الإسلامية على الجهود التي تبذلها الحكومة لعدم التفريط في ورقة الصوفيين وطبيعة التحركات خلال الفترة المقبلة، حيث يمكن أن تضاعف من التسخين في الشارع قبل أن تتمكن الحكومة من ترتيب أوضاعها مع الصوفيين وهو ما يجعلها تعمل بشكل حثيث للخروج من المطبات السياسية.
العرب