كثيرة هي المقالات التي نُشرت في الأيام القليلة الماضية عن الانتفاضة الفلسطينية التي انفجرت في الأيام الأخيرة من شهر رمضان..
وأخذت أبعاداً سياسية وعسكرية واستراتيجية متنوعة. وأريد أن أركز في هذا المقال على البُعد التاريخي لنضال الفلسطينيين، وتحديداً في مدينة يافا، والمقارنة بين الأحداث التي وقعت عام 1921 وما نشاهده الآن في عام 2021.
ففي هذا الوقت، كانت المشكلة الفلسطينية في بدايتها بعد أن أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 والذي تعهدت فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وذلك في نفس العام الذي سيطرت فيه القوات البريطانية القادمة من مصر بقيادة الجنرال “إدموند ألنبي” على جنوب فلسطين حتى مدينة القدس واتخذتها مقراً لقيادتها العسكرية في سياق الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1920، تم تعيين السير “هربرت صموئيل” مندوباً بريطانياً سامياً في فلسطين بناءً على طلب الوكالة اليهودية، والذي سُرعان ما أصدر في أغسطس/آب من نفس العام قانوناً يسمح بهجرة 16500 يهودي إلى فلسطين. وسُرعان ما تدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين من خلال يافا التي كانت الميناء الرئيسي للبلاد في هذه الفترة. وقام اليهود باستقبال المهاجرين الجدد باحتفالات صاخبة ونقلهم في مواكب إلى تل أبيب والمستوطنات الصهيونية الأخرى مما أدى إلى إثارة غضب أهالي يافا وسخطهم.
زاد من التوتر إعلان السُلطات البريطانية اعتبار اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين إضافة إلى اللغتين العربية والإنجليزية، مما أدى إلى اعتراض رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحُسيني واستقالته من منصبه. وشهدت نهاية عام 1920 مظاهرات ضخمة في يافا وسائر المدن الفلسطينية للمُطالبة بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفي مارس/آذار 1921، اجتمع المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث في حيفا وأعلن رفضه للانتداب البريطاني ووعد بلفور مطالباً بإنشاء حكومة فلسطينية لإدارة البلاد.
هكذا، فقد كان عام 1921 هو عام تحول وانتقال. ففيه، قام ونستون تشرشل وزير المُستعمرات البريطاني وقتذاك باقتطاع منطقة شرق الأردن من المنطقة المشمولة بوعد بلفور ومن ثَم إنقاذها من سيل الهجرة اليهودية، كما تم تأسيس قوات “الهاجانا” لتكون الأداة العسكرية للوكالة اليهودية في فلسطين. وفيه أيضاً ازدادت المواجهات بين العرب واليهود.
في هذا السياق، كان لمدينة يافا دور مهم باعتبارها واحدة من أقدم وأكبر المدن الفلسطينية، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كانت يافا مركزاً سياسياً وتجارياً وثقافياً متميزاً. ففيها صدر عديد من الصحف اليومية والأسبوعية التي بلغ عددها أكثر من 37 صحيفة، كان من أشهرها صحيفة “فلسطين” التي أسسها الأخوان عيسى العيسى ويوسف العيسى عام 1911. وكانت مسارحها ودور السينما فيها مصدراً للتنوير والتحديث. واجتذبت سمعتها الثقافية كبار الفنانين والأدباء العرب، فغنَّى على مسارحها السيدة أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان، وزارها كبار الأدباء والشعراء مثل توفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وبشارة الخوري. ولهذا لُقِّبت يافا بـ”عروس فلسطين”.
وفي أول مايو/أيار 1921، وقعت مواجهات بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود في يافا وانتشرت منها إلى مختلف المدن والبلدات الفلسطينية واستمرت لمدة أسبوعين. وفي أعقابها، شكَّلت السُلطات البريطانية لجنة للتحقيق في الأحداث برئاسة القاضي السير توماس هيكرافت وقامت اللجنة بزيارة يافا. ووصل تقريرها إلى أن أسباب الاضطرابات ترجع إلى رفض الفلسطينيين لسياسات إنشاء وطن قومي لليهود على أراضيهم. وأضاف أنه لا أساس لصحة أن العرب هم الذين دبروا هذه الاضطرابات.
وبعد مئة عام، تغيرت الصورة تماماً. فقد أصبحت يافا إحدى بلديات مدينة تل أبيب بقرار من الحكومة الإسرائيلية عام 1949. وتغيرت تركيبتها السكانية فانتقلت إليها أعداد كبيرة من اليهود بينما هجرها أغلبية سكانها العرب عُنوةً وقسراً، وتحوَّل الباقون منهم إلى أقلية يحملون الجنسية الإسرائيلية. ومع ذلك، فإنهم تمسكوا بهويتهم العربية الفلسطينية وتناقلوها جيلاً بعد جيل.
وعلى مدى الشهور الأولى من عام 2021، خرجت مسيرات للفلسطينيين في يافا، للإعراب عن رفضهم سياسات شركة “عميدار” الحكومية الإسرائيلية التي حاولت إخراج عدد من الفلسطينيين المقيمين في حي العجمي بالمدينة من منازلهم التي استأجروها وسكنوا فيها لعقود من شركات حكومية إسرائيلية كانت قد استولت عليها أصلاً بعد عام 1948. وازدادت هذه المظاهرات زخماً مع الأحداث المُشابهة في حي الشيخ جراح بالقدس وما تلا ذلك من اعتداءات على المسجد الأقصى. وترتبت على ذلك احتكاكات مع الشرطة الإسرائيلية التي أطلقت القنابل الصوتية والمُسيلة للدموع لتفرقتهم، وقامت جماعات من المستوطنين المُتطرفين بالاعتداء على السكان العرب في المدينة. وشهد يوم الثلاثاء 18 مايو 2021 مشاركة شاملة من جانب عرب يافا في الإضراب العام الذي شمل كل المدن العربية في إسرائيل لإظهار تضامنهم مع الحقوق الفلسطينية العادلة، ونقلت وكالات الأنباء صورا حية لشوارع المدينة التي بدت مهجورة ولتجمعات الشبان والفتيات العرب وهم يهتفون ويرددون الأهازيج الفلسطينية.
ونداء يافا على مدى قرن يقول بأن الحقوق الوطنية للشعوب لا تسقط بالتقادُم، وأنه لا يضيع حق وراءه مُطالب.
د.علي الدين هلال
العين الاخبارية