كما حدث عند نهايات كل تدخل عسكري أمريكي خارجي، ثمة «استراتيجية مخرج» قاصرة لأنها تقوم أصلاً على مقدمات خاطئة، وثمة انسحاب عسكري وسياسي متعجل يستهدف إنقاذ ماء الوجه، وثمة بالتالي تكبيد البلد الخاضع للغزو المزيد من الخسائر الفادحة والويلات بعيدة المدى.
هكذا كانت الحال في الاجتياح الأمريكي للعراق سنة 2003 حيث تبجح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بأن «المهمة اكتملت» بينما كان الخراب والتفكك والحرب الأهلية وتسليم البلد إلى إيران عبر ميليشياتها وإلى الجهاديين الإسلاميين المتقاطرين من كل حدب وصوب. وهكذا تبدو الحال اليوم في أفغانستان، رغم أن الولايات المتحدة لم تستكمل سوى 44٪ من سحب قواتها العسكرية، وكذلك رغم اتفاقية سلام مع حركة الطالبان جرى توقيعها في شباط/ فبراير الماضي.
واقع الحال في العراق ينطوي على تمكن الميليشيات المذهبية من احتلال موقع السلطة العسكرية والأمنية المهيمنة التي تصارع الوجود العسكري الأمريكي تنفيذاً لأجندات خارجية غالباً، كما تتصارع مع قوى أخرى داخلية لأسباب حزبية وطائفية. وأما واقع الحال النظير في أفغانستان فهو صراع الطالبان ضد السلطة المركزية وجيشها الحكومي وميليشياتها الموالية، حيث يسقط مئات الضحايا من المدنيين الأفغان الواقعين في خطوط تقاطع النيران المتزايدة، خاصة بعد نجاح الطالبان في بسط السيطرة على خمس مناطق على امتداد البلد.
وكما أن السلطات الحكومية في العراق مكبلة أو شبه عاجزة أمام سطوة الميليشيات لأنها بدورها وليدة ميراث الغزو والاحتلال وارتهان الإرادة الوطنية، كذلك فإن السلطات الحكومية الأفغانية تعاني من ميراث مماثل تعبيره الأوضح هو العجز الفظيع عن استخلاص برنامج سياسي يتوخى تأمين وحدة وطنية حول مبادئ السيادة والحكم الرشيد والتنمية والاعتماد على الذات واستئصال الفساد والصراعات الجانبية وتخلف الإدارة.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلن أن الولايات المتحدة سوف تواصل مساعدة قوات الأمن الأفغانية بعد انسحاب الوحدات العسكرية الأمريكية، وهذا ما كرره وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. غير أن المباحثات بين الحكومة الأفغانية والطالبان، وكذلك الجولات المكوكية التي يقوم بها المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد، تشير إلى مستقبل معاكس. ورغم أن الاضطراب قد يكون نتيجة محتومة لأي انسحاب عسكري على شاكلة ما ستفعله القوات الأمريكية في أفغانستان، فإن مشاكل الجيش الأفغاني لن تكون مقتصرة على متابعة المهمة بصفة روتينية لأن المخاطر تبدأ من قدرات الطالبان العسكرية ولا تنتهي عند الاستعصاء التكنولوجي الذي سيصيب المعدات العسكرية الحكومية بعد انسحاب المشغلين والمتعاقدين الأمريكيين.
وإذا صحّ أن الجيش الأمريكي سوف يتم انسحابه الكامل من أفغانستان بحلول أواسط تموز/ يوليو المقبل، وسيحذو حلف شمال الأطلسي حذو واشنطن في هذا، فإن كامل المشروع الأمريكي في البلد سوف يكون قد انحصر في اغتيال أسامة بن لادن، وإعادة أفغانستان إلى مشكلات ما بعد الانسحاب السوفييتي وصراعات القبائل والطوائف وأمراء الحرب. وهذا مع فارق أن الطالبان وحلفاءها و«القاعدة» ذاتها كانت في صف أمريكا سنة 1988، وهي اليوم تقاتل السلطة المركزية التي صنعها ميراث الغزو الأمريكي.
القدس العربي