استقبل نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم خبر انعقاد اجتماع القمة المنتظر بين أردوغان وبايدن بالتصفيق الحماسي، وحاولت الصحافة الموالية إضفاء قيمة كبيرة على الاجتماع. فهل كانت نتائجه مما يبرر هذا الحماس، أم أن مجرد انعقاد القمة اعتبر إنجازاً لمصلحة تركيا؟
الواقع أن كثيراً من المخاوف كانت تحيط بالاجتماع قبل حدوثه، بسبب اتساع رقعة الخلافات وعمقها بين الطرفين. لذلك فقد حرص كل من أردوغان وبايدن على إظهار جو ودي وإطلاق تصريحات متفائلة بشأن العلاقات بين البلدين. وبالنظر إلى أن الزعيمين موجودان في بروكسل، أصلاً، للمشاركة في اجتماع قمة حلف شمال الأطلسي، فقد خيمت أجندة الحلف ونقاشاته بثقلها على لقائهما، بمعنى أن الأولوية الأطلسية المتمثلة في مواجهة روسيا والصين جعلت بايدن يركز على مساحات التوافق بين واشنطن وأنقرة، مع غض النظر حالياً عن القضايا الشائكة. فلكي تركز واشنطن جهودها على الخصمين المذكورين لا بد أن تتخفف من المشكلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتطلب إدراج تركيا في الاستراتيجية الأطلسية والسعي لإبعادها عن موسكو.
بالمقابل، حسم الرئيس التركي خياراته وقرر أن مكان تركيا الطبيعي هو الغرب الأطلسي وليس الشرق الروسي ـ الصيني ـ الإيراني، على رغم كل الخلافات مع أولئك الشركاء. والحال أن هذا الخيار له بعد داخلي أيضاً في السياسة التركية، حيث كثيراً ما يدور الحديث عن «التيار الأوراسي» الذي يرى في الولايات المتحدة وأوروبا خطراً على تركيا. ممثلو هذا التيار طيف من السياسيين والعسكريين وصناع الرأي، يستمدون قوتهم من هواجس شائعة في الرأي العام التركي بخصوص «مؤامرات امبريالية» تسعى إلى تقسيم تركيا، كما سبق وفككت الإمبراطورية العثمانية قبل مئة عام.
في أحدث استطلاع رأي أجرته جامعة قادر هاس حول السياسة الخارجية، جاءت الولايات المتحدة على رأس قائمة الدول التي تشكل خطراً على تركيا. وبصورة مفارقة، اعتبرت أكثرية المستطلعة آراؤهم أنه من الضروري أن تتعاون تركيا مع الولايات المتحدة! معنى هذه المفارقة أن «الولايات المتحدة شر لا بد منه»!
هناك اعتقاد شائع لدى أنصار الحكومة بأن واشنطن لم تقف مع تركيا عند وقوع المحاولة الانقلابية في العام 2016، بل ثمة من يصل بظنونه حد القول إن الإدارة الديمقراطية كانت تتمنى نجاح تلك المحاولة. وقد استخدمت الحكومة وإعلامها هذه النزعة المتشككة والمعادية بكثرة في التجاذبات الداخلية، وتحالفت، بعيد المحاولة الانقلابية، مع حزب الحركة القومية الذي لا تخلو خطابات أركانه من الهجوم اللفظي العنيف ضد الولايات المتحدة والغرب عموماً. ويكرر زعيم الحزب المذكور دولت بهجلي اتهام أحزاب المعارضة بأنها تعقد آمالها على إدارة بايدن للتخلص من السلطة، لأنها عاجزة عن إنجاز التغيير بنفسها.
لعل الأولوية الأمريكية تكمن في إبعاد أنقرة عن موسكو، ليس فقط فيما يتعلق بصفقة الصواريخ الروسية، بل كشريك في سوريا أيضاً
في هذه النقطة هناك تحليلات تتحدث عن النموذج الإسرائيلي في التخلص من نتنياهو. تفترض هذه التحليلات أنه ما كان بالإمكان قيام ائتلاف بين ثمانية أحزاب إسرائيلية متباعدة الألوان، بما في ذلك القائمة الموحدة العربية، بهدف التخلص من حكومة الليكود ورئيسها نتنياهو لولا تشجيع واشنطن التي كانت تتوق بدورها للتخلص من عبء نتنياهو. فهل يمكن لإدارة بايدن، بالطريقة نفسها، أن تشجع على قيام ائتلاف عريض بين أحزاب المعارضة التركية، بما في ذلك الحزب الخيّر ذو الإيديولوجيا القومية المتشددة وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) للإطاحة بالتحالف الإسلامي ـ القومي القائم في أول انتخابات قادمة؟
لا نعرف ما إذا كانت أحزاب المعارضة المعنية بهذا السيناريو الافتراضي تعمل فعلاً على تحقيقه، ولكن من المحتمل أن السلطة تخشى احتمالاً من هذا النوع، بالنظر إلى معرفتها بأن إدارة بايدن لا تستسيغ الحكومة التركية الحالية، وربما تتمنى فعلاً حدوث تغيير في تركيا. هاتان الخشية والمعرفة ربما شكلتا أحد الحوافز لاندفاع القيادة التركية في توكيد خيارها الأطلسي، بمعنى العمل على رأب الصدع مع الأمريكيين والأوروبيين على رغم التنافر الواضح بين الجانبين.
أراد أردوغان من اجتماعه مع الرئيس الأمريكي، بهذا المعنى، أن يشكل فاتحة تعاون بينهما، بمعنى تقديم نفسه وحكومته له كعنوان وحيد في تركيا. في حين أن نتائج القمة المعلنة تشير إلى رغبة أمريكية في إرساء التعاون الثنائي على أسس مؤسسية لا شخصية. أي نوع من تحويل قضايا التعاون والخلاف على حد سواء إلى «اللجان المختصة» وهنا قنوات الخارجية والدفاع والاستخبارات والشؤون الاقتصادية وغيرها. لن تقوم بين الرئيسين صداقة شخصية على غرار ما كان قائماً بين أردوغان وترامب. ولم يتفقا على حلول للخلافات المعروفة: صواريخ إس 400 الروسية، طائرات إف 35 الأمريكية، دعم الإدارة الأمريكية لقوات سوريا الديمقراطية… وغيرها. لكنهما أعربا عن رغبتهما في إيجاد حلول لها. لعل الأولوية الأمريكية تكمن في إبعاد أنقرة عن موسكو، ليس فقط فيما يتعلق بصفقة الصواريخ الروسية، بل كشريك في سوريا أيضاً. هل تستطيع أنقرة الاستجابة؟ كان لافتاً تصعيد روسيا ونظام بشار عسكرياً في الشمال حيث مناطق النفوذ التركي، قبيل قمة أردوغان ـ بايدن. فهذا التصعيد رسالة صريحة لتركيا مفادها أن أي ابتعاد تركي عن موسكو في سوريا سيكون ثمنه باهظاً.
تنعقد قمة ثانية، أثناء كتابة هذه السطور، بين بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو الأول من نوعه بين الرجلين، وسيشكل أول اختبار لاستراتيجية الحلف الأطلسي الساعية إلى تطويق موسكو وبكين. وكما كانت مهمة بايدن في اجتماعه مع أردوغان هي محاولة إبعاده عن موسكو، ستكون مهمته في اجتماعه مع بوتين هي محاولة إبعاد موسكو عن بكين بهدف عزل الأخيرة وتطويقها. الأمر الذي يتطلب صفقة فيها تنازلات متبادلة.
عموماً نشاهد حركة نشطة في العلاقات الدولية، بحث متعدد الأطراف عن معادلات جديدة من شأنها أن تؤسس لنظام دولي جديد.
بكر صدقي
القدس العربي