لعل مشهد اعتداء أفراد من الأمن الفلسطيني على المحتجّين ضد جريمة تعذيب الناشط نزار بنات حتى الموت هو أبلغ تجسيد للسقوط الأخلاقي المتدحرج للسلطة الفلسطينية، فسلطة من دون سلطة على الأرض لا تجد تعبيرا لنهجها السلطوي إلا بممارسته على شعبٍ مكبّلٍ تحت احتلال مستمر في تطهيره العرقي للفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم. والصورة هنا مركبة، تزداد بشاعتها حين تدرك أن ما فعلته السلطة جرى بموافقة اللجنة المركزية لحركة فتح، أو بصمتها الجبان، لا فرق، بتحويل شباب وشابّات في الحركة، وفلسطينيين ممن وجدوا عملا في أجهزتها، من مشاريع مناضلين، وبعضهم اشتبك مع قوات الاحتلال وأُسِر فترة وجيزة أو طويلة، إلى بلطجية على الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الفتحاويون الذين رفضوا سطوة قيادتهم الهزيلة.
الوضع في حركة فتح متأزم منذ رفضت قيادات وكوادر فيها الالتحاق بقائمتها الرسمية لانتخابات المجلس التشريعي التي كان مقرّرا انتظامها في مايو/ أيار الماضي ثم أُلغيت. وكان هذا الحال تعبيرا عن استمرار القيادة في التدمير المنهجي للحركة، ليس التزاما بقيود اتفاقيات أوسلو وتبعاتها فحسب، بل تمسّكا بالسلطة وبامتيازاتٍ، فيما لا تكترث إسرائيل بكرامتهم يوميا، ولكنهم يتشبثون بهذه القيود. وهنا تتهمهم كاتبة هذه السطور بتخريب أكثر من جيل، ومنع المخلصين من التحرّك والاعتراض، أو محاولة تدميرهم.
المحزن أن نرى كثيرين من كوادر “فتح” يدافعون عن اللجنة المركزية، لخوفهم أو اقتناعهم بأن هناك من يحاول النيْل من الحركة ووحدتها وتاريخها، وبعضهم يستسلم للتعبئة والتحشيد من أجل استمرار الحركة، وبذلك يخلطون بين الدفاع عن الحركة والدفاع عن مجموعة متنفذة ومستفيدة، تتركهم للوهم، فيما ترتكب خطيئة تعميق الشرخ والتحريض لا تستعملها إلا السلطات المفلسة فكريا وأخلاقيا، فتاريخ بعض قادة “فتح” المهيمنين لا يشفع لهم ولا يبرر لهم خذلان الحركة الشعب الفلسطيني.
إرهاصات لدى قياداتٍ في حركة فتح لمحاولة فصلها عن السلطة، وتحريرها من قيود أوسلو، لم تنجح
قد يعترض بعضهم بالقول إن حركة فتح انتهت، وقد تكون قد اقتربت من النهاية، وقد يقول ساخرا إنها والسلطة الفلسطينية وجهان لعملة واحدة، وإنه لا بد من وأد الحركة. وواقع الحال أن “فتح” ما تزال الحركة الوطنية الفلسطينية الأوسع، ومن الضروري التفريق بين ما ترتكبه السلطة من تقويض لها بوصفها حركة تحرّر والاعتراف بأن لها أسرى وأسرى محرّرين وسجلا طويلا من الشهداء، الأمر الذي يُحدث يأسا وغضبا مشروعا من السلطة وقيادة “فتح”، غير أن هناك إرهاصات لدى قياداتٍ في الحركة لمحاولة فصل الحركة عن السلطة وتحريرها من قيود أوسلو، لم تنجح.
لا تدعو هذه المقالة إلى إصلاح حركة فتح، بل إلى محاولةٍ جدّيةٍ لتحريرها من السلطة، خصوصا أن حركةً تحرّريةً واسعةً لم تتشكل بعد في فلسطين وخارجها، ولم تصبح المبادرات لصناعة قيادة بديلة لمنظمة التحرير، وإنشاء حركة تحرّر بديلة لحركة فتح، حركة شعبية واسعة على الأرض. قد يكون المستقبل دمج كوادر “فتح” الوطنية في حركةٍ أوسع، لكن تأسيس “فتح” وفصائل أخرى، ثم تحويل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، من وصاية الأنظمة إلى أن تكون ممثلا للحركة الوطنية الفلسطينية، كان إنجازا يجب الحفاظ عليه، وليس مساعدة السلطة في تبذيره.
ليس الحديث هنا عن إصلاحٍ مبنيٍّ على المحاصصة لمنظمة التحرير، ولا عن إصلاح حركة فتح قبل استعادة الشعب الفلسطيني المنظمة والحركة التي أطلقت شعلة النضال الفلسطيني، وإنما الحديث أنه آن الأوان أن تتجدّد الحركة، ويقودها الشباب الفلسطيني الذي يُبدي شجاعةً وذكاءً ويوظّف الإعلام في معركة نقل نضاله على الأرض إلى كل بقاع الأرض، في صراع الروايات بين المستعمر وأهل الأرض الأصليين، من دون مواربة أو تجهيل لمفاهيم عنصرية للتغطية على فداحة الاستعمار الإحلالي الصهيوني.
يعتقد بعضهم أن معركة التمثيل قد حُسمت لحركة حماس التي التفّ حولها الشعب الفلسطيني خلال مقاومتها المسلحة العدو، لكن ذلك لا يعطي “حماس” حق التمثيل بشكل أوتوماتيكي
يُشاهد حاليا بروز قوي لقيادات المستقبل على الشاشات، مثل محمد ومنى الكرد وليان الكايد الأسيرة التي حرمت من تخريجها في جامعة بيرزيت، عدا عن آلاف نراهم ولا نعرف أسماءهم، أو ممن لا نراهم. وجميعهم يصنعون المستقبل، فمن أضاع إرث منظمة التحرير وحركة فتح وتضحيات الشهداء والمقاتلين والمناضلين لا يحقّ له ادعاء قيادة الفلسطينيين، لكن الإرث موجود لقيادات شابّة ثورية ومن كل الأعمار. ما لا يعرفه الشباب أنهم ليسوا وحدهم من أُهملوا أو حُرموا من المشاركة في البناء المؤسّساتي الفلسطيني، وفي أن يتمثلوا فيه، فهناك أجيال قاتلت في الخنادق وشُرّدت وحُرمت من طموحاتها، لأنها آمنت بالحلم الذي جرى تبديده.
قد يتطلّب النضال لتجديد حركة التحرّر الفلسطينية أو بعثها تضحياتٍ، فلم تنشأ أيٌّ من فصائل منظمة التحرير من دون قمع وسجن في دول عربية تخاف أو تخشى من دعم حركة مقاومة، وبعضها متواطئ مع العدو الإسرائيلي، فالشعب الفلسطيني يواجه الخطر الصهيوني فيما دول عربية تمادت في التطبيع مع العدو، بل في قبول الراوية الصهيونية وترديدها، في طعنةٍ من الخلف لكل فلسطيني.
لكن محاولة السلطة الفلسطينية الاتكاء على إرث “فتح” لإثبات شرعيتها وتبرير قمعها الشعب الفلسطيني لم تعد تنفع، فمن أفرغ منظمة التحرير من مضمونها، وحرّض كوادر من الحركة الشباب على استعداء الشعب الفلسطيني، لا يستطيع استحضار فتح حركة وطنية، سعيا إلى أخذ شرعية التمثيل، فلا مكان للإبقاء على شرعية التمثيل الأمني و”أوسلو” والاستنجاد بتراث تضحيات حركة فتح، فهذا تزويرٌ وتزييفٌ رخيص، فهي لا تستمع لنداءات أسرى وأسرى سابقين، ودعست على كل خطط ورؤى قدّمها الأسرى الفتحاويون من داخل المعتقلات، فعن أي “فتح” يدافعون؟
آن الأوان لأن تتجدّد حركة فتح، ويقودها الشباب الفلسطيني الذي يُبدي شجاعة وذكاء ويوظّف الإعلام في المواجهة مع العدو
في النهاية، الكلمة الفصل لمن يستطيع الاستمرار وقيادة المقاومة بكل أشكالها، وليس المسلحة فقط، فإذا لم يحاول كوادر حركة فتح إنقاذها من سجّانيها، فحركة التاريخ لا تمهل أحدا. والأمر نفسه ينطبق على كل فصائل منظمة التحرير التي تبدو عاجزةً عن استعادة الدور التحرّري لمنظمة التحرير الفلسطينية. يعتقد بعضهم أن معركة التمثيل قد حُسمت لحركة حماس التي التفّ حولها حول الشعب الفلسطيني خلال مقاومتها المسلحة العدو، لكن ذلك لا يعطي “حماس” حق التمثيل بشكل أوتوماتيكي، فالنضال لا يعتمد على الكفاح المسلح فحسب، وإنما ثمّة رؤية تحرّرية لجميع أشكال مكونات النضال الفلسطيني الذي امتد إلى كل فلسطين التاريخية، وثمة ضرورة الخروج من مربع الأيديولوجيا الدينية الضيقة لتمثيل كل الفلسطينيين، كما ناقشت الكاتبة في مقال في ملحق فلسطين في “العربي الجديد” في 28/06/2021.
دخل النضال الفلسطيني مرحلة جديدة، ليس في معادلة المواجهة مع إسرائيل بين شعب أصلي وقوى مستعمرة فحسب، بل في ضرورة إحياء حركة التحرّر الوطني أيضاً، ووضع خطة ورؤية بديلة، فالسلطة الفلسطينية تدخل فصل قمع غير مسبوق يضع الفلسطينيين في مواجهة السلطة، ولذا فإن حرمانها من استعمال شرعية منظمة التحرير وحركة فتح يتم باستردادهما من قبضة القيادة، وليس بدعم خارجي عربي أو غربي، فمن يريد أن يصبح بديلا يرضى عنه الخارج، ويعتقد أنه في هذا أذكى، فلينسحب فورا، فالوضع لا يحتمل الانتهازيين، كما أنه ليس كل من يركب موجة التغيير تحرّرياً أو ثورياً.
لميس أندوني
العربي الجديد