لماذا حرّك أردوغان الرماد تحت الملف القبرصي؟

لماذا حرّك أردوغان الرماد تحت الملف القبرصي؟

حرّك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال زيارته القسم الشمالي من قبرص قبل أيام، حالة الجمود التي يعيشها ملف الأزمة القبرصية منذ عقود، وأعلن انطلاق دبلوماسية تركية جديدة في التعامل مع الموضوع، تأخذ بالاعتبار توازناتٍ وقراراتٍ لا مفرّ منها في إطار سياسة الأمر الواقع التي تبنّتها تركيا في قضايا إقليمية كثيرة أخيراً. اللافت أيضاً كان إعلان أردوغان أن قبرص التركية وأنقرة لن يقبلا بغير حل الدولتين في الجزيرة، مكرّراً أن بلاده ستحاول تفعيل موضوع اعتراف الدول الشقيقة والصديقة بجمهورية قبرص التركية، لأن “المطلب الوحيد للقبارصة الأتراك على طاولة المفاوضات الدولية هو الاعتراف بوضعهم دولة ذات سيادة”.
أغضب أردوغان لاعبين إقليميين ودوليين عديدين، عندما قال إن “جميع المقترحات الأخرى فقدت صلاحيتها”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أن مشاريع الحلول الأممية والأوروبية التي تهدف إلى توحيد الجزيرة تتراجع يوماً بعد آخر، لكنه أشعل عود الثقاب، عندما أعلن أن أنقرة ستدعم قرار فتح أبواب منطقة مرعش السياحية المغلقة منذ 1974، التي ستنهض مجدّداً، وستستعيد أيامها القديمة بطريقةٍ لا تضر بحقوق أي شخص، وفي إطار القانون الدولي. وقد رفضت عواصم إقليمية ودولية عديدة ما أعلنه أردوغان بشأن المرحلة المقبلة في الملف القبرصي، وذكّرته بقرارات مجلس الأمن، ومنها القراران 550 و789، التي تدعو إلى إبقاء مرعش مغلقة حتى تسوية النزاع في قبرص.

يبني أردوغان معادلاته الجديدة في قبرص، في ضوء مفاوضات جنيف أخيراً بين طرفي النزاع التي وصلت إلى طريق مسدود

يردّد أردوغان أنه “لم يعد أمامنا 50 عاماً أخرى لنبدّدها”، وهي رسالة في أكثر من اتجاه إلى أكثر من طرف: هي تعني، أولاً، الإدارة الأميركية الجديدة التي سارع وزير خارجيتها، بلينكن، إلى القول إن ما يقوم به القبارصة الأتراك، بدعم من تركيا، عمل استفزازي وغير مقبول. لكن الرئيس أردوغان يعرف أن واشنطن تبحث أيضاً عن فرصة لاسترداد ما فقدته من دور ونفوذ في شرق المتوسط، وموضوع الطاقة هناك لمصلحة الروس والأوروبيين. والرسالة تعني، ثانياً، الاتحاد الأوروبي الذي تبنّى سياسات انحيازية واضحة لمصلحة القبارصة اليونان، عندما قرّر قبول طلبهم في العضوية باسم الجزيرة، ورغماً عن القبارصة الأتراك الذين لم يُسألوا عن رأيهم.
يبني أردوغان معادلاته الجديدة في قبرص، في ضوء مفاوضات جنيف أخيراً بين طرفي النزاع التي وصلت إلى طريق مسدود، حيث يلعب القبارصة اليونان أوراق “الابتزاز الأوروبي” ومحاولات انتزاع تنازلاتٍ في موضوع الحل الفدرالي للأزمة، بينما يعلن الرئيس التركي أنه “لا يمكن إحراز تقدم في المفاوضات من دون التسليم بوجود شعبين ودولتين”، وأن يتم الحوار على هذا الأساس، وأن مخطط إنهاء الدولة الشمالية في الجزيرة المعلن عام 1983، ومحاولة تحويل الكيان القبرصي التركي إلى أقلية داخل الفدرالية لن تقبل به أنقرة.

يريد أردوغان تضييق الخناق على رقعة المناورات اليونانية، حيث ما زالت أثينا تتباطأ في الانتقال بالملفات الخلافية مع أنقرة من مرحلة إلى أخرى

هي رسائل تركية تعكس كذلك حقيقة أن أنقرة أصبحت أكثر قوة في التعامل مع الملف، بعد فوز مرشحها في الانتخابات الرئاسية لقبرص التركية، أرسين تاتار، وهي تريد تذكير أثينا وبروكسل وغيرهما بذلك. وهدف أردوغان أيضاً فتح الطريق أمام لعبة التوازنات الأميركية الروسية في شرق المتوسط، لإسقاط ورقة “منتدى المتوسط” لمنتجي الغاز الذي جمع فرنسا واليونان وإسرائيل ومصر والإمارات في مواجهة النفوذ التركي، وإفشال محاولاتهم لتعطيل الاتفاقيات البحرية العسكرية التركية الليبية مع حكومة الوفاق. ودفع الأمور في الملف القبرصي نحو حوار حقيقي جاد، ينهي حالة الجمود وتكرار المواقف والتصريحات التي يردّدها كلا الطرفين منذ أكثر من نصف قرن.
يريد أردوغان تضييق الخناق على رقعة المناورات اليونانية، حيث ما زالت أثينا تتباطأ في الانتقال بالملفات الخلافية مع أنقرة من مرحلة إلى أخرى، مستغلة الدعمين، الأوروبي والإقليمي، لها. لذلك، نرى أنّ فرنسا هي الغاضب الأول، لأنها الخاسر الأكبر من التحرّك التركي الجديد “هذه الخطوة الأحادية تمثل استفزازاً”، ولذلك سارعت إلى التلويح بورقة مجلس الأمن الذي تترأس دورته الحالية، وهي تدرك أن نفوذها ودورها سيتقلصان أكثر فأكثر إذا ما نجح أردوغان في ترتيب طاولة حوار ثلاثي تركي أميركي روسي عن سيناريوهات شرق المتوسط.

أنقرة والقبارصة الأتراك لن يتراجعوا عن مواقفهم في حل الدولتين، وما دام بعضهم في أوروبا متمسّكاً بحلم تحويل قبارصة الشمال إلى أقلية عرقية

يريد أردوغان تجاوز العقبة الأوروبية التي تتحمّل مسؤولية فشل خطط التسوية عام 2004 مع مشروع كوفي أنان، ومع مبادرة مونتانا الأممية في سويسرا عام 2017، التي تحفظ عليها القبارصة اليونان. وهو يريد هنا أن يذكّر الاتحاد الأوروبي بأنه وحده من يتحمّل مسؤولية تدليل القبارصة اليونان على هذا النحو. فعّل الاتحاد ذلك بتجاهله اتفاقيات الدول الضامنة عام 1959، والدستور القبرصي الذي يمنع التحاق أي طرف بتكتل إقليمي أو دولي من دون موافقة الطرف الآخر. وتجاهل أن قبارصة الجنوب هم من حاولوا الانقلاب عام 1937 على الدولة، عبر إسقاط مكاريوس بقرار يوناني، وفتح الطريق أمام العضوية القبرصية في المجموعة الأوروبية، على الرغم من خلافات الجزيرة وإفشال نيقوسيا مشروع كوفي أنان عام 2004. أنقرة والقبارصة الأتراك لن يتراجعوا عن مواقفهم في حل الدولتين، وما دام بعضهم في أوروبا متمسّكاً بحلم تحويل قبارصة الشمال إلى أقلية عرقية، وتجاهل بحث سلبيات سيناريو الحل الكونفدرالي للجزيرة وإيجابياته، بضمانات دولية ورعاية أممية.
العقبة التي قد تعوق التنسيق بين أنقرة وحكومة الرئيس تاتار في قبرص الشمالية، وتشجع اللاعب الأوروبي وشركائه على مواصلة التصعيد ضد أنقرة قد تكون مواقف المعارضة القوية في قبرص الشمالية، برئاسة مصطفى أقنجي الذي يصفه بعضهم في تركيا بأنه رجل المشروع الأوروبي، والذي خسر الانتخابات الرئاسية قبل تسعة أشهر، وها هو يردّد، بعد إعلان أردوغان مفاجأة إنشاء قصر رئاسي وبرلمان جديد في الجزء الشمالي، أن “قيم الدول لا تقاس بأبنيتها الفخمة، بل بديمقراطيتها ومساحة الحريات وتطبيق معايير حقوق الإنسان واحترام العدالة ودعم رفاهية المواطن”.

سمير صالحة

العربي الجديد