أنهت القوات الأميركية المتمركزة في أفغانستان نحو 95% من سحب قواتها، تاركة المجال عمليا لزيادة نفوذ حركة طالبان التي قد تسيطر على مناطق واسعة من أفغانستان، باعتبارها قوة متماسكة وخبيرة في القتال والصراع. وقد سارع الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، إلى التعبير عن انتقاده قرار بلاده سحب جنودها وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، معتبرا، في مقابلة تلفزيونية، ما جرى “خطأ” ستعاني منه “النساء والفتيات الأفغانيات”. وقال إن “النساء والفتيات الأفغانيات سيعانين من ضررٍ لا يوصف”.
معلوم أن بوش هو من أصدر الأوامر للجيش الأميركي لغزو أفغانستان، إثر أكبر عملية اعتداء تعرّضت لها الولايات المتحدة، هجوم تنظيم القاعدة بالطائرات على برجي التجارة العالمية في نيويورك، والتي تشابه إلى حد بعيد ما تعرّضت إليه الولايات المتحدة في بيرل هاربر في العملية التي نفذتها القوات اليابانية 1941، علما أن منطلقات الهجومين كانت لأهداف وملابسات متباعدة وبمنطلقات مختلفة. وكانت ردة الفعل الأميركية على مجزرة بيرل هاربر موازية تقريبا لردة الفعل على مجزرة برجي التجارة العالمية في نيويورك، فالولايات المتحدة التي سارعت عام 1941 إلى إعلان الحرب على اليابان، إثر هجوم بيرل هاربر، كان من الطبيعي أن يكون رد عام 2001 على هجوم نيويورك مماثلا، أي إعلان الحرب على تنظيم القاعدة ومن يحالفه.
عانت أميركا خلال حرب فيتنام أزمات وويلات وصعابا كثيرة، إلى درجة تحولت فيها حرب فيتنام وآثارها وانعكاساتها إلى أزمة اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية أميركية
ولكن ما جرى لحظة قرار بوش غزو أفغانستان، أنه تجاهل دروس حرب فيتنام ونتائجها، والتي كانت قد انتهت بكارثة أميركية. كما أنه، في قراره غزو أفغانستان يومها، وضع جانبا حقائق أن بلاده، حين انتهت حرب فيتنام عام 1973، توصلت إلى القرار بعد خلاصاتٍ أساسها عدم المشاركة بعد اليوم في أي غزو عسكري خارجي آخر. ولم يكن القرار الأميركي هذا قرار الدولة في الولايات المتحدة فقط، بل كان قرار الدولة والمجتمع وقرار العامة والخاصة، الشعب والنخبة، وذلك كله بسبب المعاناة التي نتجت عن حرب فيتنام. وعام 1973، عام قرار الانسحاب من فيتنام، الذي حدث قبل نحو 50 سنة، كان عمليا القرار الأميركي بالانسحاب من الحروب الخارجية، إثر حرب استمرت نحو عشرين سنة أسفرت عن مقتل ثلاثة ملايين شخص، أغلبهم من المدنيين الفيتناميين، و58 ألف جندي أميركي.
عانت أميركا خلال حرب فيتنام أزمات وويلات وصعابا كثيرة، إلى درجة تحولت فيها حرب فيتنام وآثارها وانعكاساتها إلى أزمة اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية أميركية، لكن الرئيس بوش الابن في قراره غزو أفغانستان تجاهل الأوضاع الأميركية والقرار الأميركي الذي كان قد اتخذ بعدم التدخل عسكريا في أي مكان درسا رئيسيا وأساسيا من دروس حرب فيتنام.
كانت الظواهر التي رافقت حرب فيتنام هي الأساس، وهي التي شكلت المؤشّرات الرئيسية التي بدأت بالظهور، وأشرت إلى تراجع ثم انهيار أميركي على مستوياتٍ عدّة، حيث بدأت ثقة الجنود الأميركيين تتراجع في خطط (ومواقف) واشنطن التي عملت على إطالة مدة وجودهم في فيتنام، فضلًا عن عدم تصديقهم مزاعم حكومتهم المتكرّرة بقرب انتصارهم في الحرب.
نتجت عن الحركة القوية المناهضة للحرب احتجاجات عنيفة وقتل وسجن جماعي للأفراد المتمركزين في فيتنام وفي الولايات المتحدة أيضًا
تفاقمت أوضاع الجنود الأميركيين يومها إلى درجة أنه، في السنوات الأخيرة للحرب، شهدت تدهورًا متزايدًا في الناحيتين، النفسية والجسدية، بين الجنود الأميركيين، المتطوعين والمجندين، على حد سواء، منها، بشكل رئيسي، زيادة انتشار الإدمان على المخدّرات، وبروز ردات فعل خطرة، أبرزها ارتفاع نسبة الانتحار لدى الجنود. إضافة إلى ظواهر متعدّدة وغريبة، منها ظاهرة اضطراب ما بعد الصدمة والتمرّد، وقد ظهرت مثلا في الهجمات التي شنّها الجنود على الضباط المفوضين والمسؤولين العسكريين وضباط الصف، فقد هرب بين يوليو/ تموز 1966 وديسمبر/ كانون الأول 1973 أكثر من 503 آلاف من أفراد الجيش الأميركي، ونتجت عن الحركة القوية المناهضة للحرب احتجاجات عنيفة وقتل وسجن جماعي للأفراد المتمركزين في فيتنام وفي الولايات المتحدة أيضًا. ولقد عصفت بأذهانهم ودمرتهم الصور المروعة للحرب على شاشات التلفزيون، فانقلب الأميركيون في الجبهة الداخلية ضد الحرب. ومن الفظائع التي شهدتها حرب فيتنام في أيامها الأخيرة مزيد من المذابح والمجازر التي ارتكبها الجيش الأميركي، منها مثلا، الكشف المروّع عن أن الجنود الأميركيين قد ذبحوا بلا رحمة أكثر من أربعمائة مدني أعزل في قرية ماي لاي في مارس/ آذار 1968.
قمة الاعتراض الأميركي على حرب فيتنام كانت في أكتوبر/ تشرين الأول 1967، حيث نظم آلاف من الأميركيين تظاهرة ضخمة ضد حرب فيتنام أمام مبنى البنتاغون. وجادل معارضو الحرب بأن المدنيين، وليس المقاتلين الأعداء، هم ضحايا الحرب الحقيقيون، وأن الولايات المتحدة تدعم ديكتاتورية فاسدة في سايغون.
عمليا كانت الولايات المتحدة قد قرّرت بعد فيتنام إنها لن ترسل جنودها في حرب احتلال خارجية ثانيا. ولكن بوش الابن تجاهل ذلك كله وقرّر غزو أفغانستان. واليوم يريد لأميركا أن تبقى، متجاهلا أنها قرّرت الانسحاب منذ 50 سنة وليس الآن، لكن ذاكرة بوش الابن قصيرة جدا كما هو ظاهر. والمفارقة الغريبة أن بوش الذي فاضت عاطفته إزاء نساء أفغانستان وفتياتها لم يذكر، في اعتراضه، ضحايا برجي التجارة، وتناسى جنود أميركا الذين عادوا بالأكياس إلى بلادهم جرّاء الحرب في أفغانستان.
عارف العبد
العربي الجديد