في شهر أيار (مايو)، دعا الفلسطينيون إلى إضراب عام في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة والمدن ذات الأغلبية الفلسطينية في “إسرائيل” للاحتجاج على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وهدف إضراب “الكرامة” إلى غلق كل الأنشطة التجارية للتنديد بالهجوم العسكري الإسرائيلي الأخير على غزة، الذي قتل على الأقل 212 شخصًا، وللتنديد أيضًا بمصادرة منازل العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، في انتهاك للقانون الدولي.
وانضمت اتحادات الطلاب الفلسطينية أيضًا لدعوات الإضراب العام وتعهدت بعدم حضور الفصول الدراسية تضامنًا مع المضربين. وأدى الإضراب واسع النطاق إلى تشبيه البعض له بالإضراب العام 1936 في فلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني.
وفي ما يلي نستذكر تلك اللحظة الحاسمة في التاريخ الفلسطيني قبل قيام “إسرائيل” والنكبة التي تسببت في تشريد 750 ألف فلسطيني على الأقل من منازلهم.
* *
فلسطين تحت الانتداب البريطاني
بحلول العام 1936 كانت فلسطين التاريخية تحت الانتداب الاستعماري البريطاني لمدة 20 عامًا، ووفقًا لاتفافية سايكس بيكو للعام 1916، فقد قسمت فرنسا والمملكة المتحدة مساحات واسعة من سورية الكبرى والعراق فيما بينهما، بعد أن كانت سابقًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.
ومع ذلك، لم يكن الانتداب على فلسطين المحاولة الاستعمارية البريطانية الوحيدة في المنطقة، فمن دون علم القادة العرب الإقليميين والسكان الفلسطينيين في ذلك الوقت، وعدت المملكة المتحدة في وعد بلفور 1917 بأنها ستدعم تأسيس دولة للشعب اليهودي في فلسطين الانتدابية.
وبينما صعد أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا في العام 1933 وبدأ سياساته العنصرية والعنيفة ضد اليهود التي ستتوج لاحقًا بالهولوكوست، بدأ العديد من اليهود بمغادرة أوروبا وتوجه آلاف منهم إلى فلسطين.
بين العامين 1922 و1940 ازداد عدد السكان اليهود 5 أضعاف، مرتفعاً من 38.790 إلى أكثر من 467.000 ليمثلوا نحو ثلث السكان الفلسطينيين في ذلك الوقت الذين كان عددهم مليونا ونصف مليون، وفي الوقت نفسه تضاعفت ملكيات الأراضي اليهودية من 148.500 فدان إلى 383.500 فدان في الإطار الزمني نفسه.
كانت الهجرات اليهودية مصدرًا للتوتر بين السلطات البريطانية والفلسطينيين، وبشكل جزئي نتيجة نقل الأراضي للمجتمع اليهودي سواء من خلال التسليم أحادي الجانب من البريطانيين أو بخلق ظروف تسهل الاستيلاء على الأراضي أو شرائها من الملاك الإقطاعيين غير الفلسطينيين. وسنّت السلطات البريطانية تشريعًا يسمح بمصادرة الأراضي الفلسطينية لأغراض عسكرية، ليتم بعد ذلك تسليم تلك الأراضي للسكان اليهود.
وأدى التأثير الاجتماعي الاقتصادي لتلك السياسيات البريطانية تجاه الفلسطينيين –حيث وجد العديد منهم أنفسهم مهجرين من قراهم بواسطة ملاك الأرض، كما أصبحت منتجاتهم الزراعية مثقلة بالضرائب، بينما وجد الذين انتقلوا إلى المراكز الحضرية أنفسهم يعيشون في فقر في مدن من الصفيح- إلى تنامي الغضب بين الفلسطينيين، ما مهد الطريق لإضراب 1936.
الإضراب
شكل شهر نيسان (أبريل) 1936 نقطة تحول فاصلة في الرفض الفلسطيني للانتداب البريطاني، ففي 19 من ذلك الشهر، دعت اللجنة الوطنية العربية المشكلة حديثًا آنذاك في نابلس، الفلسطينيين، إلى إضراب عام والامتناع عن دفع الضرائب إضافة إلى مقاطعة المنتجات اليهودية احتجاجاً على الاستعمار البريطاني والهجرة اليهودية المتزايدة.
وقبل أيام قليلة من ذلك فقط، وقعت حادثة قتل فيها فلسطينيان اثنان من اليهود قرب طولكرم، ما أدى إلى اشتعال المواجهات بين اليهود والفلسطينيين. وبحلول 25 نيسان (أبريل) اتحدت اللجان الوطنية المحلية لتشكيل لجنة عربية عليا يقودها مفتي القدس أمين الحسيني، التي ستصبح كيانًا سياسيًا للدفاع عن الفلسطينيين تحت الانتداب البريطاني.
كانت الحركة ملحوظة لأنها ضمت الكثيرين من المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت من ريفيين وحضر ورجال ونساء والكثير من القصص التي تشهد على طبيعتها الواسعة، كما انبثقت حملات التضامن عبر الشرق الأوسط في مدن مثل القاهرة وبيروت ودمشق.
وكانت حقيقة أن غالبية السكان الفلسطينيين في ذلك الوقت يعملون في الزراعة قد ساعدت على استمرار الإضراب، فقد منحهم ذلك نوعاً من الاكتفاء الذاتي من الغذاء والاحتياجات الأساسية وأصبح الفلاحون الفلسطينيون محور النضال.
قمعت القوات البريطانية الإضراب بوحشية، وبدأت السلطات البريطانية في اعتقال أي شخص يشتبه في مسؤوليته عن الحركة، بينما واصلت هدم المنازل كعقاب لهم، وهي ممارسة ما يزال الاحتلال الإسرائيلي يستخدمها حتى اليوم ضد الفلسطينيين.
في الوقت نفسه، عمل البريطانيون مع العصابات الصهيونية مثل عصابة الهاغاناه الشهيرة، ودربوها لقمع الإضراب الفلسطيني، وأوقفت اللجنة العليا الإضراب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1936 حين دعا القادة العرب الإقليميين من الدول العربية الفلسطينيين إلى الثقة بأن العرب سيفون بمطالبهم -التي لم يتم الوفاء بها إطلاقًا.
الثورة العربية الكبرى
دفع الإضراب العام الذي استمر 6 أشهر ما أصبح يُعرف بالثورة العربية في فلسطين من 1936 وحتى 1939. وشهدت تلك الأعوام الثلاثة أكبر مقاومة مسلحة ضد الانتداب البريطاني، وتعرضت لقمع عنيف من القوات البريطانية، التي شحنت أكثر من 20 ألف جندي إلى فلسطين الانتدابية لقمع الثورة. وبالتوازي مع ذلك تنامت القوات شبه العسكرية الصهيونية في أعدادها وقوتها.
في أواخر العام 1937 أعلنت سلطات الانتداب الأحكام العرفية في فلسطين وحظرت اللجنة العربية العليا. ودعت لجنة بيل (التي تُعرف رسميًا باسم اللجنة الملكية لفلسطين) -وهي لجنة تحقيق بريطانية نشأت في أعقاب اندلاع الإضراب الفلسطيني- لأول مرة إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين في العام 1937.
رفض الفلسطينيون خطة التقسيم بشكل واسع، لأنها ستتسبب في نقل المزيد من الأراضي إلى اليهود والتهجير القسري لنحو 225 ألف فلسطيني مقابل 1.250 يهوديًا. وفي الوقت نفسه انقسمت القيادة الصهيونية، فقال البعض إن فلسطين التاريخية كلها يجب أن تصبح دولة “إسرائيل”.
وكان في العام 1939 فقط، عندما واجهت المملكة المتحدة اندلاع الحرب العالمية الثانية، حين انتهت الثورة بعد أن أصدرت لندن وثيقة “الكتاب الأبيض” التي وعدت فيها بتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبإقامة دولة فلسطينية مستقلة خلال عقد من الزمان.
تشير الأرقام التقديرية إلى مقتل 5 آلاف فلسطيني وجرح ما بين 15 ألفا إلى 20 ألف وسجن 5.600 شخص بين العامين 1936 و1939. ونظرًا إلى عدد السكان في ذلك الوقت، فإن نحو 10 % من رجال فلسطين تعرضوا للقتل أو الإصابة أو السجن خلال أعوام الثورة الثلاثة.
ولكن، بعد انتهاء مهلة الأعوام العشرة التي حددها “الكتاب الأبيض”، كانت دولة “إسرائيل” قد تأسست وتعرض مئات آلاف الفلسطينيين للنزوح في النكبة. ومع أن الثورة الفلسطينية فشلت في تحقيق معظم أهدافها، إلا أنها وضعت الأساس للمقاومة الفلسطينية المقبلة.
على مر العقود حدثت إضرابات مختلفة في درجة تعبئتها، بما في ذلك إضرابات يوم الأرض في العام 1976 التي قام بها المواطنون الفلسطينيون الذين يعيشون في “إسرائيل”. وفي الوقت نفسه سلطت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات “BDS” الضوء على التاريخ الفلسطيني الطويل لحركات المقاطعة التي تعود إلى عهد الانتداب البريطاني.
القدس العربي