على مدار العقد الماضي، أولى صحفيون وخبراء في السياسة الخارجية بالشرق الأوسط اهتمامًا كبيرًا بالثورات العربية وتداعياتها، بما في ذلك الحروب بالوكالة في المنطقة، والمنافسات على القيادة، والمناورات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية. وخلال هذه الفترة، وبينما كانت الولايات المتحدة تناقش دورها في الشرق الأوسط، سعت روسيا والصين إلى نفوذ أكبر في المنطقة. وفي هذا الصدد صدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في مارس 2021 دراسة بعنوان “التنافس بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط” لـ “ستيفن كوك”، الزميل الأول في إيني إنريكو ماتي (Eni Enrico Mattei) لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا.
يناقش كوك في الدراسة كيف تُغير منافسة القوى العظمى آفاق إدارة الصراعات في الشرق الأوسط، وكيف ينبغي على واشنطن أن تتجنب هذا النوع من النزاعات والأخطاء الاستراتيجية، التي وفرت فرصًا للقوى الكبرى الأخرى، لا سيما روسيا والصين، لتقويض سياسة الولايات المتحدة. وقد سعت هذه الدول – وبدرجة أقل الهند والاتحاد الأوروبي – إلى نفوذ أكبر في المنطقة. وفي حين أن المنافسة بين القوى الكبرى لم تؤدي إلى مواجهة مباشرة بعد، إلا أن الأطراف القوية الفاعلة ما زالت تسعى إلى إقامة وتوسيع وتعزيز النفوذ والهيبة على حساب بعضها البعض. وفي غضون ذلك، لا يزال التعاون عرضيًا وظرفيًا.
ويضيف كوك أن الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط مستمرة في التطور، وفي نفس الوقت قد يترتب على التطورات البعيدة عن المنطقة، مثل أوروبا، وبحر الصين الجنوبي، أن تغير شبكات القوة والشراكات بطرق تزيد من حدة المنافسة، أو تمهد الطريق لمزيد من التعاون. ونظرًا لعدم القدرة على التنبؤ بالأحداث، فمن المستحيل تحديد العوامل أو التغيرات التي ستسهم في أي من النتيجتين. وعلى الرغم من هذه الحالة من عدم اليقين، إلا أن هناك تطور واحد واضح: انتهت اللحظة الأمريكية للسيطرة الإقليمية، عندما كانت لا تأمل أي دولة أو مجموعة من الدول في تحدي قوة الولايات المتحدة ونفوذها. فالشرق الأوسط الآن جاهز للاستيلاء عليه من مجموعة متنوعة من القوى الإقليمية والجهات الفاعلة الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة. هذا الفراغ جعل المنطقة أقل أمانًا. كما أن المنافسة بين القوى الكبرى – وبين القوى العظمى والمتنافسين الإقليميين – أثرت بشكل كبير على مسار الصراعات في المنطقة، لا سيما في سوريا وليبيا، وفي اليمن أيضًا، وبدرجة أقل في لبنان.
الفواعل الإقليمية:
وتؤكد الدراسة أن الإمارات العربية المتحدة فاعل مهم في المنطقة، فهي شريك أمني للولايات المتحدة، ولديها مصالح مشتركة مع روسيا، وعمقت علاقاتها الاقتصادية مع الصين.
وبالنسبة لمصر، فإن الاهتمامات الأساسية لقادتها الآن تتركز في التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. وتتطابق الطريقة التي اتبعتها القيادة المصرية في تحقيق هذه الأهداف مع وجهات نظر وأهداف بكين وموسكو، على الرغم من أن القاهرة سعت إلى موازنة هذه العلاقات المتطورة مع علاقاتها طويلة الأمد مع واشنطن.
وفي هذا السياق تتناول الدراسة القوى الإقليمية الأخرى، وترى أن علاقات تركيا ومصالحها هي الأكثر ديناميكية، إذ يسعى القادة الأتراك إلى سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أجل ترسيخ مكانة تركيا في الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، لعبت تركيا دورًا رئيسيًا في النزاعات الإقليمية مثل تلك التي حدثت في ليبيا وسوريا، مما أدى إلى الصراع والتعاون مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وروسيا.
وأخيرًا، تطمح إيران إلى أن تصبح زعيمة إقليمية أيضًا، وبالتالي سعت إلى تقويض الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين. وقد عززت القيادة الإيرانية هذا الهدف من خلال التعاون الجيوستراتيجي مع روسيا، خاصة في سوريا، بالإضافة إلى تطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين.
عودة روسيا:
تشير الدراسة إلى أن روسيا هي القوة الرئيسية الأكثر وضوحًا في الشرق الأوسط. على الرغم من تضاؤل نفوذ موسكو في المنطقة بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جددت روسيا دورها عندما أمر الرئيس فلاديمير بوتين، قواته المسلحة بالتدخل في سوريا في عام 2015. وأدت القوة العسكرية الروسية إلى استقرار ساحة المعركة، وبالتالي أنقذت الرئيس السوري بشار الأسد من الهزيمة. منذ ذلك الحين، تمكنت قوات النظام – بمساعدة روسيا – من استعادة معظم الأراضي السورية. وفي هذه العملية، طورت البحرية الروسية قاعدتها طويلة الأمد في طرطوس، وأقامت القوات الجوية الروسية وجودًا في قاعدة حميميم الجوية السورية.
وفي هذا السياق، ساعدت حقيقة أن مصر وروسيا على نفس الجانب من الصراع في سوريا وليبيا على توسيع العلاقات الثنائية بين الدولتين. ولم يسع الروس بالضرورة إلى إبعاد المصريين ووضعهم في فلك موسكو، بدلاً من ذلك سعوا إلى سحب مصر بعيدًا عن الولايات المتحدة بما يكفي لتعقيد الجهود الأمريكية في المنطقة. خاصة مع خلاف واشنطن والقاهرة حينها حول صنع السلام العربي الإسرائيلي، وعقوبات الأمم المتحدة على العراق. كل هذه القضايا عززت انعدام الثقة بين البلدين، مما أتاح لموسكو فرصة لتقديم نفسها كبديل جزئي على الأقل لواشنطن.
وبالمثل، ظهرت ديناميكية مماثلة في تركيا، حيث أدت قائمة طويلة من القضايا الجيوسياسية إلى تقويض العلاقات مع الولايات المتحدة. ويرتبط كثير من الغضب من الولايات المتحدة في تركيا بالصراع السوري. وهناك أيضًا مشكلة فتح الله جولن، رجل الدين المقيم الدائم في الولايات المتحدة الذي يزعم المسؤولون في أنقرة أنه العقل المدبر لانقلاب 2016 الفاشل، والذي تطلب الحكومة التركية تسليمه. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الدور التركي في مساعدة إيران على التهرب من العقوبات الدولية، وشراء تركيا لنظام الدفاع الجوي الروسي S-400، أدى إلى تقويض الثقة بين الحكومتين. واستغلت موسكو التوترات في العلاقات الثنائية لإبرام صفقة بشأن S-400. وعلى الرغم من وجود مصالح متباينة في ليبيا، وسوريا، وناغورنو كارباخ، فقد قسمت أنقرة وموسكو خلافاتهما بطرق سمحت لهما بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية ودفاعية.
وترى الدراسة أنه من بين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة الذين طوّروا علاقاتهم مع روسيا، ربما تكون إسرائيل هي الأكثر أهمية، فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، أصبحت موسكو طرفاً حاسمًا لإسرائيل بشأن المسائل الأمنية، ويرجع ذلك أساسًا إلى دور روسيا في الصراع السوري. ومثل تركيا، تحتاج إسرائيل إلى تعاون روسي لحماية مصالحها في سوريا، وتحديداً لمنع إيران من إقامة وجود عسكري دائم هناك وتعطيل تدفق الأسلحة المتطورة من إيران إلى حزب الله. وإضافة إلى ذلك، فإن موسكو تستطيع تعزيز مصلحتها الجيوستراتيجية الشاملة في إضعاف التحالف الغربي من خلال الاستفادة من الزلات الأمريكية ورغبة واشنطن الواضحة في تقليص التزاماتها في الشرق الأوسط. ولهذه الغاية، قدم القادة الروس أنفسهم على أنهم بدائل ذات كفاءة وغير أيديولوجية ومتماسكة تجاه الولايات المتحدة، في وقت تبدو فيه واشنطن على العكس تمامًا من وجهة نظر حلفائها الإقليميين.
توسع الصين:
سلطت الدراسة الضوء على النشاط الصيني المتزايد في جميع أنحاء المنطقة، والذي يُعد عاملاً تحويليًا نظرًا للموارد الاقتصادية الهائلة لبكين، والتقدم العسكري الصيني في جميع المجالات. ويتكهن عدد كبير من المعلقين أنه مع تقليص الولايات المتحدة لوجودها، يمكن أن تكون الصين القوة العظمى التالية التي تلعب دور عامل الاستقرار الإقليمي.
وفي هذا السياق، وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر حول استراتيجية الصين في الشرق الأوسط، يُنظر إلى نهج بكين تجاه المنطقة على نطاق واسع على أنه انفصال كبير عن الماضي، عندما كانت الصين مجرد فاعل هامشي. فمن جانبها، دعمت الحكومة الصينية حركات التحرر الوطني والمناهضة للاستعمار من بعيد ولم يكن لديها سوى القليل من الاتصالات الدبلوماسية مع العالم العربي وإسرائيل وإيران وتركيا. وعلى سبيل المثال، أقامت بكين والرياض علاقات دبلوماسية فقط في التسعينيات. منذ ذلك الحين، نمت العلاقات بين الصين والمملكة العربية السعودية – وكذلك المنطقة بأكملها – بشكل كبير. وكانت التنمية الاقتصادية السريعة في الصين، والتي بدأت في التسعينيات، هي الطليعة الرائدة في تعزيز وجود بكين في الشرق الأوسط، وكان ذلك مدفوعًا بطلب البلاد على موارد الطاقة. في العقدين بين عامي 1990 و2009، زادت واردات الصين من نفط الشرق الأوسط من 4.8 مليون إلى 47.8 مليون طن سنويًا. وتقدر وكالة معلومات الطاقة الأمريكية أنه بين عامي 2019 و2020، قدمت دول الخليج حوالي 40% من واردات النفط الصيني، منها 16% أنتج في المملكة العربية السعودية، مما يجعلها أكبر مورد للنفط الخام للصين، بينما احتلت إيران في عام 2019 المرتبة الثامنة على محفظة واردات الصين بنحو 300 ألف برميل نفط يوميًا.
وفي هذا الإطار، على مدى الثلاثين عامًا الماضية، اتسع نطاق علاقات الصين مع الشرق الأوسط إلى أبعد من الطاقة، على الرغم من أن النفط لا يزال مصدر اهتمام بكين الأساسي بالمنطقة، فقد زادت التجارة بين الصين والمنطقة بشكل كبير، وبدأت بكين في الاستثمار في البنية التحتية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وتعد الصين الآن أكبر مستثمر إقليمي وأكبر شريك تجاري لإحدى عشرة دولة في الشرق الأوسط. تدرك القيادة الصينية بوضوح أن تطوير دور بكين في الشرق الأوسط أمر بالغ الأهمية لنجاح مبادرة الحزام والطريق.
ونتيجة لذلك، وقعت الصين وواحد وعشرون دولة في الشرق الأوسط صفقات بشأن مشروعات مبادرة الحزام والطريق. وتتمتع الجزائر ومصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أيضًا بـ “شراكات استراتيجية شاملة” مع الصين، وهو التصنيف الذي توليه وزارة الخارجية الصينية للدول ذات الأهمية الخاصة. كما صنفت الصين كل من العراق والأردن والمغرب وعمان وقطر كشركاء استراتيجيين، ولديها كذلك “علاقة تعاون استراتيجية” مع تركيا و “شراكة ابتكارية شاملة” مع إسرائيل.
محاولات الهند:
سلطت الدراسة الضوء على استثمار الهند المزيد من مواردها الدبلوماسية في تطوير وتوسيع علاقاتها مع الشرق الأوسط، خاصة مع دول الخليج العربي في العقدين الماضيين. ومنذ تولي ناريندرا مودي منصب رئيس الوزراء في عام 2014، عمل على توسيع هذه العلاقات بعيدًا عن الصينيين والروس. وينبع ذلك من عدد من القضايا: مثل العلاقات الوثيقة بين باكستان ومجلس التعاون الخليجي، خاصة الدول ذات الوزن الثقيل مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وبهذا الصدد لعب التقاء النجاحات الانتخابية للقوميين الهندوس في الهند وخطر التطرف الإسلامي في التسعينيات وأوائل العشرينات دورًا مهمًا في تشكيل تواصل نيودلهي مع كل من إسرائيل ودول الخليج. بعد أن شهدت المملكة العربية السعودية موجة من هجمات القاعدة، اكتشف قادة الخليج أن لديهم مصلحة مشتركة مع الهند في مكافحة هذا التهديد.
وتوضح الدراسة أن العائق الأساسي أمام نفوذ الهند والسبب الرئيسي لاهتمامها بالمنطقة هو الصين. فقد نما قلق القيادة الهندية بشكل متزايد من نفوذ الصين في هذه المنطقة المهمة للهند، خاصة مع دافع الصين الواضح لتصبح قوة بحرية في المنطقة.
حدود الاتحاد الأوروبي:
تناولت الدراسة دور الاتحاد الأوروبي في المنطقة، وتوضح أن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تخضع لقاعدة الإجماع، مما يجعل من الصعب على الكتلة اتباع استراتيجية متماسكة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأهداف الأساسية للاتحاد الأوروبي في المنطقة تتمثل في السعي إلى حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي، والحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، ومنع موجات اللاجئين من مناطق الصراع في الشرق الأوسط.
في هذ السياق تشير الدراسة إلى أن بروكسل تمكنت من الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة بعد أن انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق، وهو إنجاز، لكنه لم يستطع ثني الولايات المتحدة عن اتخاذ تلك الخطوة الدراماتيكية أو منع إيران من تخصيب كميات متزايدة من اليورانيوم. بينما لم يكن الاتحاد الأوروبي أكثر نجاحًا من الجهات الفاعلة الرئيسية الأخرى في جهوده لإنهاء النزاعات في ليبيا وسوريا واليمن.
ختامًا، تشير الدراسة إلى أن قلة من قادة الشرق الأوسط، يعتبرون الاتحاد الأوروبي بديلاً للقوى العظمى الأخرى. فالاتحاد الأوروبي ليس لديه مصلحة ولا قدرة على لعب دور أكبر في المنطقة. ويميل قادة الشرق الأوسط إلى اعتبار الاتحاد الأوروبي مصدرًا للاستثمار، وبعض الدول الأوروبية الفردية مثل فرنسا وألمانيا مصادر موثوقة للأسلحة في سوق الأسلحة في الشرق الأوسط.
المستقبل للدراسات