أمريكا أولاً: تداعيات انسحاب واشنطن من أفغانستان على نفوذها الدولي

أمريكا أولاً: تداعيات انسحاب واشنطن من أفغانستان على نفوذها الدولي

تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن عند توليه رئاسة الولايات المتحدة بأن يتبع سياسات مغايرة لسلفه الرئيس ترامب، والذي رفع شعار “أمريكا أولاً”، بل أكد بايدن أن “أمريكا عادت”، غير أن طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دفعت بعض المحللين للتأكيد أن سياسات بايدن لا تختلف كثيراً عن ترامب، أو أنها لا تعدو أن تكون نسخة مخففة من مبدأ “أمريكا أولاً” في أحسن الأحوال.

تداعيات الانسحاب الأمريكي

يمكن أن يؤثر الانسحاب الأمريكي غير المخطط من أفغانستان على نفوذ الولايات المتحدة على النحو التالي:

1- فقدان المصداقية الغربية: كانت الولايات المتحدة حريصة على تصوير تدخلها في أفغانستان على أنه مساعدة على إعادة بناء “دول فاشلة” عسكرياً وسياسياً، إلا أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتخلي واشنطن عن أقرب حلفائها في الداخل أثبت أنها حليف غير موثوق فيه، وهو الأمر الذي قد تكون له تداعيات مؤثرة على رؤية حلفاء واشنطن حول العالم لها.

ولعل عقد بعض مقالات الرأي في الصحف الحكومية الصينية مقارنة بين وضع أفغانستان وتايوان، وأن واشنطن لن تهب لنجدة الأخيرة في حال اجتاحتها الصين عسكرياً، يقدم مؤشراً على إمكانية تعرض واشنطن لأزمة ثقة من جانب حلفائها حول العالم.

ومن جهة أخرى، فإن خروج واشنطن من أفغانستان يدحض الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” منذ توليه السلطة في يناير الماضي بأن “أمريكا عادت”، في إشارة إلى اتجاه واشنطن للعب دور دولي فاعل بالتعاون مع الحلفاء.

2- تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً: يرسخ الانسحاب الأمريكي الاعتقاد السائد بأن مرحلة أحادية الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم قد شارفت على نهايتها، خاصة أن واشنطن انسحبت من أفغانستان من دون تحقيق أي من أهدافها من الحرب ضد أفغانستان. فلم تتمكن من إقامة حكومة مستقرة هناك، أو القضاء على تهديد الإرهاب.

وليس أدل على حجم التراجع في المكانة الأمريكية من مطالبة واشنطن ببقاء قواتها في أفغانستان بعد يوم 31 أغسطس، حتى تتمكن من إخراج الأفغان المتعاونين مع القوات الغربية ومراجعة ملفاتهم في مطار كابول، قبل نقلهم إلى الدول الغربية، وهو ما رفضته طالبان، وتتجه الولايات المتحدة للإذعان لمطالب الحركة، وهو ما يمثل موقفاً محرجاً لواشنطن على أقل تقدير.

3- توتر العلاقات عبر الأطلسية: على الرغم من محاولات إدارة جو بايدن إصلاح العلاقات عبر الأطلسية، والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، فإن الانسحاب الأمريكي غير المخطط من أفغانستان يمكن أن يكون حجر عثرة في تحسن العلاقة بين ضفتي الأطلسي في عهد بايدن.

فقد تسبب الانسحاب الأمريكي في تهديد الأمن الأوروبي، فعلى سبيل المثال، انتقد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الانسحاب الأمريكي، ووصفه بأنه “خطأ قد ندفع عواقبه جميعاً”. وتخشى الدول الأوروبية من تنامي ظاهرتي الإرهاب واللجوء من أفغانستان، والتي قد تؤثر بلا شك على أوروبا، إذ تشير التقديرات إلى أن تدفق اللاجئين الأفغان إلى دول الجوار، ستتبعه محاولات للوصول إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.

والأهم من هذا أن اللاجئين قد يتم اختراقهم من قبل العناصر الإرهابية، الساعية للوصول إلى الدول الأوروبية لتنفيذ عمليات إرهابية. ولم يعد هذا الاحتمال نظرياً، فقد كشفت لندن، في 23 أغسطس، أنها منعت أربعة أشخاص موضوعين على قوائم المنع من السفر إلى المملكة المتحدة من السفر من مطار كابول إلى بريطانيا، كما أنها ألقت القبض على شخص خامس تمكن من الوصول إلى لندن على إحدى طائرات إجلاء الأفغان الذين عملوا مع الجيش البريطاني.

ومن جهة ثالثة، بات من الواضح أن الدول الأوروبية غير قادرة على تنفيذ أي عملية عسكرية، حتى لو تمثلت في مجرد عمليات إجلاء، من دون الاعتماد على المظلة الأمريكية. ووضح ذلك في عمليات الإجلاء في مطار كابول، إذ تسعى لندن لحث واشنطن على تمديد الموعد النهائي للإجلاء من أفغانستان، حتى تتمكن من نقل المتعاونين معها من الأفغان، وفي حالة رفض واشنطن، فسوف يتحتم على بريطانيا، إما تسريع عمليات الإجلاء، أو وقفها تماماً.

ولذا، فإن أزمة أفغانستان سوف تجدد الحديث عن ضرورة تحقيق أوروبا لـ “الاستقلالية الاستراتيجية” (Strategic Autonomy) عن الولايات المتحدة، أي لعب الاتحاد الأوروبي أدواراً عسكرية أكثر استقلالية.

4- عودة تهديدات الإرهاب: يتسابق مسؤولو الجيش والمخابرات الأمريكيون لوضع خطط لاحتواء التهديدات الإرهابية الصادرة من أفغانستان، إذ إن تسارع سقوط كابول في يد طالبان ينبئ بتحول البلاد إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، خاصة في ضوء وجود مؤشرات قوية على نقض طالبان التزامها بموجب بنود اتفاقية السلام الموقعة بين واشنطن والحركة في فبراير 2020، والتي تنص على عدم السماح بأن تصبح أفغانستان قاعدة للإرهابيين الذين قد يهددوا الغرب.

وتشير تقديرات أولية إلى أن أفغانستان تحولت بالفعل إلى ملاذ آمن للقاعدة وداعش، إذ أبلغ خبراء مستقلون بالأمم المتحدة مجلس الأمن في يوليو الماضي، بأن تنظيم القاعدة له وجود في 15 إقليماً على الأقل من 34 إقليماً في أفغانستان، كما أن سيطرة طالبان على كامل الأراضي الأفغانية ساهمت في إطلاق سجناء طالبان والقاعدة من السجون الأفغانية.

أدوار دولية بديلة

سيترك الانسحاب الأمريكي فراغاً أمنياً في وسط وجنوب آسيا، وسوف يكون لزاماً على الدول المجاورة لأفغانستان التعامل معه، خاصة روسيا والصين وباكستان والهند، وسوف يكون من الصعب على واشنطن استعادة النفوذ في آسيا الوسطى، وهو ما وضح في رفض الدول المجاورة لأفغانستان استضافة قواعد أمريكية، سواء لجمع معلومات استخباراتية عن أفغانستان، أو تنفيذ ضربات ضد القاعدة هناك.

فقد رفضت طاجيكستان وقيرغيزستان، واللتان تتمتعان بعلاقات أمنية قوية مع روسيا، استضافة قواعد أمريكية، بل إن باكستان، حليفة طالبان، رفضت استضافة قواعد أمريكية على أراضيها. ويتوقع أن تتجه باكستان والصين إلى إقامة علاقات أمنية واقتصادية مع طالبان أفغانستان، خاصة أن بعض مشروعات الطوق والطريق البري تمر عبر أفغانستان.

ولعل استمرار عمل السفارات التابعة لكل من الصين وروسيا وباكستان في العاصمة الأفغانية كابول، في الوقت الذي أغلقت فيه أغلب السفارات الغربية أبوابها هناك، يحمل دلالة رمزية على القوى المستفيدة من تطورات الوضع في أفغانستان. ويعني ذلك في المجمل أن واشنطن قد خسرت نفوذها هناك لصالح القوى الدولية والإقليمية الأخرى، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- تعزيز الدور الأمني الروسي: تتزايد المخاوف الروسية من تحالف طالبان مع الجماعات الإسلامية المتشددة في الشيشان، ولذلك اتجهت الاستراتيجية الروسية في الانفتاح على طالبان، واستقبال وفود منها، فضلاً عن تقديم نفسها لدول آسيا الوسطى باعتبارها المظلة الأمنية الرئيسية لهم في مواجهة تهديدات الإرهاب المحتمل النابع من أفغانستان.

ووضح ذلك الأمر في التدريبات العسكرية المشتركة لروسيا وأوزبكستان على الحدود مع أفغانستان في 2 أغسطس، كما أجريت تدريبات ثلاثية مشتركة مع طاجيكستان وأوزبكستان في الفترة من 5 إلى 10 أغسطس في “حرب ميدون” الطاجيكي على بعد 20 كيلومتراً من الحدود مع أفغانستان. كما كشفت موسكو في مطلع أغسطس عن زيادتها إمدادات الأسلحة إلى الدولتين.

كما أن هناك توقعات بزيادة التعاون الروسي مع الصين وباكستان حول أفغانستان، وهو ما يضعف أي نفوذ للولايات المتحدة أو الدول الأوروبية في هذه المنطقة.

2- دعم الهيمنة الاقتصادية الصينية: تحتفظ بكين بقنوات اتصال مع حركة طالبان على مدار عقدين من الزمان. وعلى الرغم من وجود مخاوف صينية من إمكانية استغلال عناصر متطرفة من الإيجور أفغانستان كقاعدة للتدريب والتجنيد والانطلاق منها لتنفيذ عمليات ضد الصين، فإنه يلاحظ أن هذه المخاوف مبالغ فيها، نظراً لإغلاق الصين الحدود مع أفغانستان بشكل كامل، ويكاد يكون من المستحيل انتقال أي عناصر من بدخشان الأفغانية إلى الأراضي الصينية.

كما فضلت بكين أيضاً عدم بناء أي بنية تحتية تربط بين الصين وأفغانستان من خلال ممر واخان، وذلك لتفضيلها الإبقاء على الممر كمنطقة عازلة بين الدولتين. وفي حالة تمكن طالبان من تحقيق الاستقرار الأمني في أفغانستان، فإن الصين سوف تكون أكبر المستفيدين، إذ إنها سوف تتجه لتفعيل مشروع الطوق والطريق البري عبر أفغانستان، واستئناف الاستثمارات الصينية التي توقفت في منجم عينك للنحاس ومشروعات الطاقة في أموداريا.

كما أن هناك أخباراً متداولة حول مناقشة الصين تشييد طريق رئيسي بين أفغانستان ومدينة بيشاور شمال غرب باكستان، وهو ما يعني عملياً انضمام أفغانستان الرسمي إلى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. ويلاحظ أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، يمنح بكين فرصة استراتيجية غير مسبوقة لتنفيذ مشاريعها الاقتصادية في المنطقة.

ونظراً لأن باكستان تعد حليف طالبان، بالإضافة إلى رغبة الأخيرة في الحصول على اعتراف دولي، وتقديم نموذج ناجح لحكم أفغانستان، فإنه لا يستبعد تعاون أفغانستان والصين اقتصادياً، خاصة في الوقت الذي لا تتمتع فيه أفغانستان بثروات طبيعية يمكن أن تستغلها كإيرادات لبناء الدولة بعد 20 عاماً من الحرب. وقد عبرت حركة طالبان بالفعل عن ترحيبها باستثمارات بكين في إعادة إعمار أفغانستان في منتصف يوليو، واصفة الصين بالدولة “الصديقة”.

3- خسارة النفوذ الهندي: تتزايد مخاوف نيودلهي من التداعيات المترتبة على استيلاء حركة طالبان على السلطة، فقد كانت الهند تتمتع بعلاقات قوية مع الحكومة الأفغانية السابقة، فقد بلغت الاستثمارات الهندية في أفغانستان أكثر من 3 مليارات دولار في قطاعات البني التحتية، بما في ذلك أكثر من 400 مشروع في أنحاء أفغانستان، والتي صارت مهددة مع وصول طالبان للحكم.

كما أن تنامي نفوذ طالبان في أفغانستان يعني عودة تهديدات الجماعات الإرهابية، مثل عسكر طيبة وجيش محمد، واللتين تنتشران على طول الحدود الأفغانية – الباكستانية، وتتدرب في معسكرات هناك، وتشن هجمات على الهند انطلاقاً من المنطقة الحدودية. وتتخوف الهند من أن يكتسب مسلحو هذه الجماعات جرأة أكثر ويحصلون على مناطق نفوذ أكبر لتنفيذ هجماتهم عقب سيطرة طالبان على أفغانستان.

وأدركت الهند التداعيات الجيواستراتيجية النابعة من الانسحاب الأمريكي على أمنها، وأنه بات عليها معالجة هواجسها الأمنية بمفردها، ولذلك اتبعت نيودلهي ثلاث سياسات، وهي الانفتاح على حركة طالبان، ودعوة الأمم المتحدة للعب دور أكبر في أفغانستان، فضلاً عن التنسيق مع إيران. ولاتزال جدوى هذه السياسات محل شك كبير.

4- تأمين المصالح الباكستانية: كانت باكستان تناصب الحكومة الأفغانية السابقة العداء، كما أنها كانت واحدة من الدول القليلة التي اعترفت بنظام طالبان عندما سيطر على كابول في عام 1996، وتتهم بصورة دورية بتقديمها دعماً عسكرياً واقتصادياً لحركة طالبان.

ومن المرجَّح أن تسعى إسلام آباد إلى توسيع نفوذها في أفغانستان عبر طالبان، ومن ناحية الاقتصادية، ترغب باكستان في إفساد الخطط الهندية، التي كانت ترغب في إدماج أفغانستان في ممر شمال – جنوب، وذلك عبر الاستثمار في ميناء تشابهار الإيراني، والذي تسعى نيودلهي من خلاله إلى منافسة ميناء جودار الباكستاني، وبالتالي، فإن سيطرة طالبان على أفغانستان ستقوض الاستثمارات الهندية في ميناء تشابهار الإيراني.

وفي الختام، أكد انهيار الحكومة الأفغانية أمام حركة طالبان أن الولايات المتحدة لم تعد فاعلاً مؤثراً في تفاعلات آسيا الوسطى، وأنها خسرت نفوذها هناك، وأن القوى الدولية والإقليمية المعنية سوف تتبع سياسات جديدة لملء فراغ الانسحاب الأمريكي، وإقامة ترتيبات جديدة، كما بات على الدول الأوروبية التفكير في تحقيق “الاستقلالية الاستراتيجية” عن واشنطن.

عبدالمنعم سعيد

المستقبل للدراسات