هذا ليس مقالاً أو وصفة سياسية بشأن المشروع النووي الإيراني وكيفية وقفه وتبطيئه أو التسليم به، ولن يناقش مسألة ما إذا كان يجب إجبار أو منع استئناف الاتفاق النووي وعودة الولايات المتحدة إليه. لقد كتبت في السابق مقالات كثيرة وأوراق عمل وأبحاثاً، وستتم الكتابة أيضاً عن المشروع النووي الإيراني وما ينبثق عنه.
الهدف طرح مبادئ لسياسة جديدة وتغيير النموذج فيما يتعلق بالبعد غير النووي لسياسة وسلوك إيران في المنطقة، من أجل وقف التآكل في قدرة ردع إسرائيل فيما يتعلق بضرب الجبهة الداخلية الإسرائيلية. تفكير إسرائيل في الموضوع الإيراني تفكير متحجر بدرجة كبيرة خاضعة لقوالب قديمة ولها صلة أقل بالواقع وتعطي البعد النووي أهمية وجودية، وبالتالي حصرية.
بشأن سياسة إسرائيل إزاء الموضوع النووي، يفهم ضمناً أن البعد النووي وغير النووي مرتبطان وبينهما علاقة وثيقة، عسكرياً وسياسياً. ومن ناحية التفكير ورسم السياسة هناك مكان لفحص وتحليل منفصلين للبدائل، وهناك إمكانية للتركيز على البعد غير النووي. معظم التهديدات الثابتة لإيران على الشرق الأوسط بشكل عام وعلى إسرائيل بشكل خاص تأتي من المجال غير النووي، مثل الصواريخ البالستية والاستخدام الكبير للمنظمات الوكيلة وإعطاء الرعاية واستخدام الإرهاب. نائب رئيس الأركان السابق، الجنرال إسرائيل طال، مصمم دبابة “ميركافا ” ومن القادة العسكريين للمدرعات المشهورين في التاريخ، ألّف في 1996 كتاباً بعنوان “أمن قومي: قلة أمام كثرة”. وواصل وتعمق في ادعاءاته في عدة مقابلات طويلة في 1999. عرض طال عقيدة أمن قومي واسعة ومنظمة ومتناسقة مع الوضع السياسي والعسكري والاقتصادي والجيوسياسي في إسرائيل.
بطبيعة الحال، أكد على عدد من المبادئ العقائدية الأساسية للأمن الإسرائيلي، مثل نقل ساحة المعركة إلى أرض العدو بأسرع وقت، ووجود فئة فرعية “عملياتية” بين المستويين التكتيكي والسياسي، والاعتماد الكبير على الولايات المتحدة وعلى منصات قتالية (بالأساس الطائرات الأمريكية). وأكد أيضاً على تفرد الحالة الإسرائيلية، وأن الانتصار الإسرائيلي سيكون دائماً تكتيكياً. ولكن هزيمة إسرائيل ستكون بالضرورة استراتيجية حتماً.
استنتاج طال هو أن البديل السياسي يجب أن يكون دائماً الخيار الأخير لإسرائيل. في ظل غيابه، كما قال كارل فون كلاوزوفيتش، من يريد السلام فعليه الاستعداد للحرب. طال، الذي طور هذه الأقوال واستنتج بأن “وجود ردع فعال لا يستبعد التهديد، هو قدرة ورغبة في إخراج ثأر غير متوازن إلى حيز التنفيذ، وعلى الأقل متوازن مع نشاطات العدو”.
في الحالة الإسرائيلية – الإيرانية، تم تكييف هذه الرؤية مع المحيط ومع المعطيات ذات العلاقة الموجودة لدى الدكتور توماس كابلان، المؤرخ ورجل الأعمال الأمريكي الذي له تجربة وشبكة علاقات متشعبة في أرجاء الشرق الأوسط. استخدم كابلان التاريخ العسكري والاقتصادي كأداة تنبؤ أساسية في التحليل الجيوسياسي، وأسس برنامجاً تعليمياً في جامعة هارفارد، التي تستضيف رجال المخابرات. في 1990، قبل سنة من غزو العراق للكويت، توقع كابلان هذا التطور وعرضه على الموساد الإسرائيلي وعلى السعودية. فرفضته الدولتان.
في أيلول 2019 حذر كابلان من أن المنطق الاستراتيجي لإيران يدفعها لمهاجمة منشآت النفط في السعودية. هكذا، في الشهر نفسه، هاجمت إيران محطات النفط لشركة “أرامكو” في السعودية. السعودية ودولة الإمارات وعدد من الأشخاص في إسرائيل تعلموا الإصغاء لكابلان في الموضوع الإيراني وفي تحليل سلوكها الإقليمي.
تقف في أساس مقاربة كابلان المقولة التي بحسبها هناك قطيعة بين إسرائيل وإيران في كل ما يتعلق بالعلاقة بين التكتيك والاستراتيجية. إسرائيل تفكر بمفاهيم “الأهداف” وتكييفها مع الرد على ضرب إسرائيل. من هذه الناحية، إسرائيل مقيدة على صعيد التكتيك، وإيران تفكر بصورة استراتيجية، مثل شعار الشطرنج أمام لعبة النرد، وترى مسار النجاح بوضوح لاستراتيجيتها الشاملة. من ناحية إيران ثمة تبنّ جزئي لرؤية الحرب الألمانية المتمثلة بـ “التطويق”. فعندما تقوم بتطويق العدو، فستقيد حرية مناورته وتضعف قدرة ردعه. وفي المرحلة الثانية، ستقوم بتعويد العدو بالتدريج على تقبل إصابة محدودة على أراضيه كجزء من اللعبة الشرعية، في حين ستشتت الجهد أيضاً في ساحات أخرى. وعليه، فإن المشروع النووي من جهة، والنشاطات الجارية في اليمن من جهة أخرى، هي تعبيرات عن تشتيت الجهود، هذا في الوقت الذي فيه يعتبر فيه إطلاق حماس للصواريخ على مدن إسرائيل هو الجزء الذي يتلقى فيه العدو، إسرائيل، الضربة كجزء لا ينفصل من المواجهة ويمتنع عن الرد لدرء التصعيد. وبذلك يتآكل ردعه.
التعالي والغطرسة لم يغيرا شيئاً. لا توجد هناك عملية نسبت لإسرائيل، لا سيما للموساد، أدت إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية أو دفعت إيران لتغيير سياستها.
جزء من نشاطات إسرائيل ضد إيران وامتداداتها والمليشيات التي يتم تشغيلها من طهران، كان إبداعياً وعصرياً، مؤثراً وجريئاً. ولكنه كان -حسب التعريف- مقتصراً على مستوى التكتيك. بكلمات بسيطة، التعالي والغطرسة لم يغيرا شيئاً. لا توجد هناك عملية نسبت لإسرائيل، لا سيما للموساد، أدت إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية أو دفعت إيران لتغيير سياستها. صحيح أن إيران ضعفت، والعقوبات تؤتي أكلها، والمشروع النووي ربما تم تبطيئه كل بضع سنوات، لكن الواقع لم يتغير جوهرياً.
إيران هي بحكم التعريف دولة توسعية مدفوعة بمزيج من تطلعات الهيمنة الإقليمية والأعمال العدائية التي استمرت 1400 سنة مع العالم العربي السني وأيديولوجيا دينية مسيحانية. خصائص السياسة خدمت إيران الشاه، وهي تخدم الآن الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أضافت لبنة أخرى مهمة وهي “تصدير الثورة”. من هذه المبادئ، قال كابلان، إيران صاغت سياسة منظمة ومرنة وطويلة المدى وصبورة وترتكز على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول، طموحات صريحة وعلنية: قومية فارسية، دفاع عن الأقليات الشيعية في الشرق الأوسط واستخدام واسع وباهظ الثمن لمنظمات امتدادية (حزب الله البارز من بينها). المستوى الثاني، استخدام واستغلال ذكي لنقاط ضعف العدو، في الحالة الإسرائيلية نقطة الضعف هي الحساسية تجاه الجبهة الداخلية، وفي العقد الأخير بدأ العالم يرى إيران كتحد في السياق الإسرائيلي وليس كتحد شامل. المستوى الثالث، مشروع نووي شبه مكشوف ومشروع نووي عسكري سري بصورة رسمية، لكن غير سري من حيث وجوده. يضاف إلى ذلك برنامج تطوير وإنتاج للصواريخ البالستية بعيدة المدى.
من ناحية إسرائيل والسعودية والإمارات، فإن استخدام منظمات امتدادية هو الأكثر إشكالية. وحسب “النموذج التجاري” الإيراني، فإن المنظمات الامتدادية تقلق العدو وهي التي تتلقى رده. عندما تقوم حماس والجهاد الإسلامي بإطلاق الصواريخ على عسقلان و”سدروت” و”ناحل عوز” أو “تل أبيب” فإن إسرائيل تقوم بالرد في غزة. وعندما يطلق حزب الله الصواريخ على حيفا، فإن إسرائيل تهاجم لبنان. المعادلة بسيطة في عدم تناسقها: إيران تهاجم إسرائيل، وإسرائيل تقصف الفلسطينيين أو اللبنانيين، بعضهم من المدنيين. هذه السياسة تفيد إيران لأن إسرائيل، مثل السعودية، توافق على وجود هذه المعادلة، وترد على المستوى التكتيكي فقط، ثم تنشغل في بتفسير سبب منع التصعيد. النتيجة هي أن إسرائيل وإيران والسعودية والإمارات جميعها تدور في حلقة مفرغة مثلما في لوحة الفنان الهولندي موريتس آشر “يصعدون ويهبطون”.
من الواضح أن البديل والمسار السياسي هما المفضلان، لكن يجب تهديد إيران بلغة واضحة وبصيغة “اسمعوا جيداً، نعرف ما تفكرون به. وإلا فسيكون الرد…”. في هذه الفترة الزمنية، إيران غير مهددة بذلك، وتعرف ذلك جيداً وتواصل استغلال نقاط ضعف إسرائيل.
القدس العربي