تعتبر ملفات الفساد المليارية، من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات العراقية، ومع مرور قرابة عشرين عاما على تراكم صفقات الفساد نتيجة التخادم السياسي بين مروجي الفساد، ومختلف الغرماء السياسيين، بات من الصعب جدا تفكيك هذه الشبكات، التي اختلط عبر نشاطها المال الفاسد بالسلاح المنفلت، بملفات سياسية إقليمية ودولية، وارتباط المليارات المنهوبة بشبكات تجارة المخدرات والاتجار بالبشر وتهريب السلاح في مختلف بؤر النزاع في المنطقة.
عندما تولى مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء في العراق، طرح مشروعه الواعد بمواجهة شبكات الفساد، واعتبر بعض المراقبين تشكيله لجانا خاصة تتولى التحقيق في هذه الملفات أمرا يبشر بأن هنالك جدية في الأمر، وقد رأى البعض كوة أمل، عندما تم تكليف الفريق أحمد أبو رغيف بتولي التحقيق في ملفات فساد قد تطيح برؤوس كبيرة في العملية السياسية، لكن الأمر حتى الآن لم ينتج عنه مخرجات تشي بأن هنالك جدية في استئصال الفساد المعشش في الدولة العراقية.
ومع طرح احتمالية ترشح مصطفى الكاظمي لعهدة رئاسية ثانية، رئيسا للوزراء تتوافق عليه الكتل المتنافسة، كما حصل سابقا، يكون على الكاظمي مسؤولية أن يواجه تحديات تغول شبكات الفساد، وأن يتعامل مع خزانة البلد الخاوية. ورغم بعض التفاؤل نتيجة ارتفاع أسعار النفط، ولكن حتى هذا الارتفاع لن يوفر للكاظمي البحبوحة التي تمتع بها سلفه نوري المالكي، في عهدتيه الرئاسيتين من وفرة مالية نتيجة أسعار النفط المرتفعة حينذاك، وبالتالي يصبح لزاما على الكاظمي مواجهة ملفات الفساد بحزم حقيقي، لوضع حلول قد تساهم في إيجاد مخرج من هوة الفساد السحيقة التي وصل لها حال العراق. وكما يعلم مراقبو الشأن العراقي، إن السياسيين يتعاملون مع الوزارات والخدمات الحكومية على أنها إقطاعيات مربحة، لذلك أشار عدد من خبراء الإدارة والاقتصد الدوليين بوجوب أن يحذو العراق حذو الدول التي عالجت آفات الفساد، وأن يتبنى حل الحكومة الإلكترونية كمعطى استراتيجي في مكافحة الفساد، وعلى الرغم من بعض الجهود المبذولة لتوصيل الخدمات الحكومية الأساسية بالإنترنت، إلا إن الأمم المتحدة تصنف العراق في ذيل قائمة البلدان، من حيث معايير الشفافية الدولية، بعد بوروندي، أفقر دولة في العالم من حيث دخل الفرد، وليس أفضل بكثير من اليمن والصومال. وقد كتب مايكل روبين الباحث في معهد أمريكان إنتربرايز لسياسات الدفاع والخارجية مقالا عن تحديات الفساد، وما يواجه الحكومة العراقية بعد انتخابات تشرين الأول/اكتوبر 2021، فقال؛ في سبعينيات القرن الماضي، كان العراق الدولة العربية الأقل فساداً، حتى اندلعت حروب صدام العدوانية ضد إيران أولاً ثم الكويت، التي لم تكن نتيجتها الهزيمة العسكرية فحسب، بل أدت أيضاً إلى عقوبات اقتصادية خانقة، وقد أدى التشوه الاقتصادي، واستشراء اقتصاد السوق السوداء، وفساد الأمم المتحدة في صفقات النفط مقابل الغذاء إلى تفاقم سوء الأوضاع في العراق.
بعد غزو الولايات المتحدة عام 2003، زاد الطين بلة، نتيجة ضخ الأموال في اقتصاد ليس لديه القدرة المؤسسية على التعامل معه، وفي عام 2004، احتل العراق المرتبة 129 من أصل 146 في مؤشر مستويات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية قبل كينيا وباكستان. وبدلاً من تحسين تصنيفاته، انخفض ترتيبه إلى ما دون مستوى عهد صدام. واليوم، لا يزال العراق أحد أكثر دول العالم فسادا، وهو بمستوى أقل بكثير من دول المقارنة السابقة، وليس أفضل بكثير من الكونغو وهايتي. واذا قارنا العراق مع رواندا، الدولة التي وصلت إلى الحضيض عام 1994 بعد الحرب الأهلية والإبادة الجماعية التي تعرضت لها، إلا أنها ظهرت لأول مرة في قائمة منظمة الشفافية الدولية عام 2005 على قدم المساواة مع لبنان وإيران. وإذا نظرنا الى التجربة الرواندية في مكافحة الفساد، سنجد الحكومة قد أعطت الأولوية لمكافحة الفساد بطريقة لم يفعلها العراق على الإطلاق. وما عزز بالفعل جهود مكافحة الفساد في رواندا هو إطلاق ما عرف بـ» iRemb» وهي بوابة رقمية ثلاثية اللغات للخدمات الحكومية. وفي عام 2015 أطلقت الحكومة الموقع الإلكتروني كبوابة دفع لخمس خدمات حكومية مختلفة، ثم بحلول عام 2019 كان هناك ما يقرب من 100 خدمة متاحة على المنصة، ويمكن للروانديين والسياح على حد سواء، استخدام الفرنك الرواندي أو الدولار الأمريكي في تعاملاتهم. وباتت صفحة الويب تتعامل مع كل شيء، من دفع تذاكر كاميرات المرور، إلى طلبات جوازات السفر، إلى تصاريح العمل، إلى عمليات النقل البري، والنتيجة مكافحة فرص الفساد اليومي البسيط. إن تجربة رواندا ليست فريدة من نوعها، فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، انزلقت بعض البلدان المكونة له والمستقلة حديثًا حينذاك إلى الفوضى الإدارية، وتحولت الى بؤر للفساد ونشاط المافيات، لكن بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، نجت من شبكات الفساد، مثال ذلك إستونيا، إذ وضعت حوالي 99% من خدماتها الحكومية على الإنترنت، وهي من بين أقل دول العالم فسادا. بينما يمكن للمراقب ملاحظة تزامن انخفاض المشاركة الإلكترونية مع ارتفاع معدلات الفساد في بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مثل، أوكرانيا أو بيلاروسيا أو طاجيكستان.
من شأن خدمات الدفع الإلكتروني والبوابة الشاملة لجميع الخدمات الحكومية، أن تقضي بشكل كبير على الفساد
في الأول من أيار/مايو 2021، أطلق البنك التجاري العراقي تطبيقه لتحويل الحوالات المالية عبر الهاتف المحمول، وعلى الرغم من وجود بعض الثغرات الفنية، إلا أن التطبيق انتشر بشكل جيد. قام على إثر ذلك مصرف الرشيد الحكومي بوضع إعلانات لتطبيق الهاتف الخاص به على اللوحات الإعلانية في جميع أنحاء بغداد، حتى أنه سعى للذهاب إلى أبعد من المصرف التجاري العراقي عبر السماح للعملاء بتقديم طلب للحصول على قروض عبر الإنترنت. وتظهر خدمات شركات تعمل عبر التطبيقات الذكية على الإنترنت، مثل خدمة توصيل الطعام والسلع المختلفة. وهكذا نجد أن العراقيين يتقدمون على الحكومة في مجال التكنولوجيا الرقمية. يقول مايكل روبين في تقريره عن العراق؛ في العام الماضي، أصدرت الحكومة العراقية مقاطع فيديو للمساعدة على توجيه العراقيين لإجراء المعاملات الحكومية، لكن هذا الإجراء في نهاية المطاف لم يفعل الكثير لتشجيع الحكم الرشيد. كذلك الحال في كردستان العراق، إذ يشتكي رجال الأعمال من مدفوعات قسرية لهيئات تنظيم البيئة والإدارات الحكومية الأخرى، التي تستخدم الأموال، إما لأغراض حزبية، أو للإنفاق على مكاتبهم الخاصة، ولكن ليس لأغراضها المعلنة، بالإضافة إلى ذلك هنالك بعض الاستبيانات، أشارت إلى أن ما يقرب من ثلث الأسر العراقية، أبلغت عن دفع رشوة لتلقي الخدمات العامة، كما يشير استبيان آخر إلى أن عددا مماثلا من الشرطة العراقية فاسد.
ويرى بعض المختصين إن من شأن خدمات الدفع الإلكتروني والبوابة الشاملة لجميع الخدمات الحكومية، أن تقضي بشكل كبير على مثل هذه المشاكل، قد تفترس الشرطة الفاسدة المواطنين، لكنها لا تستطيع الربح بسهولة، إذا كان على المواطنين الدفع إلكترونيا. في حين أن العراق لديه النسبة السكانية الأكثر من ناحية استخدام شبكات الهاتف الخلوي، إذ إن نصف العراقيين يستخدمون الإنترنت، وهذا الأمر لا يعني بالضرورة استبعاد العراقيين غير المتصلين بشبكة الإنترنت من الخدمات الإلكترونية الحكومية. ببساطة، فإن جميع الإدارات من سلطة ما بعد التحالف المؤقتة، التي عينها إياد علاوي إلى إدارة الكاظمي قد وعدت بالتصدي للفساد، لكن أيا منها لم تفعل ذلك بشكل فعال. وسيتطلب الأمر استثمارا صغيرا نسبيا من جانب إدارة الكاظمي، لتحويل الخدمات الحكومية إلى بوابة إلكترونية، والتأكد من أن رسوم جميع الخدمات الحكومية، أو الضرائب، أو الغرامات تذهب مباشرة إلى حساب الحكومة العراقية، وسيكون افتتاح البوابة لجميع العراقيين نوعا من التقدم المرئي الذي يتوق إليه العراقيون. من المؤكد أن هذا لن يمنع الفساد الذي بلغ مديات خطيرة لدى السياسيين العراقيين، الذين يأخذون الرشاوى على العقود أو استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب مالية أو تجارية، وسيتطلب ذلك محاكمات حقيقية توقع العقوبات على المشاركين في مثل هذه النشاطات، مهما كانت مناصبهم. ومع ذلك، فإن البوابات الإلكترونية ستؤدي إلى تجفيف فرص الفساد بشكل سريع جدا على المستوى اليومي. وهذا بدوره سيمكن، على مدى العقد أو العقدين التاليين، من العودة إلى المواقف الثقافية التي كانت سائدة في حقبة السبعينيات، والتي كانت تنظر إلى المشاركة في الفساد بازدراء.
السياسيون العراقيون لن يصلحوا أنفسهم، لقد حان الوقت لاستخدام التكنولوجيا ليس فقط لتجاوز تقاعسهم عن العمل، ولكن أيضا للسماح للعراق بالقفز إلى الأمام لتجاوز معظم دول المنطقة، والوصول لأداء حكومي نظيف يوفر بيئة صالحة للأعمال.
القدس العربي