لم يكُن لبنان يوماً هزيلاً ضعيفاً ومترهلاً كما هو اليوم. حتى إبان الحرب الأهلية (1975-1989)، كان اللبناني يشعر بأن ظهره “محمي” لأن المجتمع الدولي والدول العربية، كانا يحاولان جاهدَين التدخل بأي طريقة لمساعدة لبنان واللبنانيين. لم يشعر اللبناني بالحاجة والقلة والفقر كما هي الأوضاع اليوم، لأن المساعدات كانت تأتي بوفرة دائماً. كان هناك أمل في أن الحرب لا بد من أن تضع أوزارها وينتقل اللبنانيون إلى بناء دولتهم. أما اليوم، فلا أمل. انحدر البلد إلى مشاريع محاور أكبر من أن يتحمّلها، وهو المثقل بالأزمات المتنقلة السياسية والاقتصادية والدستورية. وكان ينقص نشوء أزمة دبلوماسية خطيرة مع الدول الخليجية عموماً والسعودية خصوصاً، لتدفع البلد بخطوات حثيثة نحو “جهنم” التي تكلم عنها رئيس الجمهورية ميشال عون.
حادثة الطيونة “مصغر” حرب أهلية
وأعادت حادثة الطيونة في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مشاهد الحرب الأهلية بكل تفاصيلها، باعتبار أن هذه المنطقة كانت “خطوط تماس”، وهي كما بات يُعرف تقع بين منطقتين متجاورتين، الشياح وهي حاضنة للثنائي الشيعي، “حركة أمل” و”حزب الله”، وعين الرمانة وهي حاضنة لحزب “القوات اللبنانية”. كادت هذه الحادثة أن تدخل البلد في حرب أهلية جديدة ونتج منها ظهور أبعاد كانت تعتمل داخل النفوس قبل أن تتفجر بصورة متاريس ورصاص، ومنها أن البلد سهل الانقياد إلى حرب، وأن مبدأ التقسيم على أساس الطائفة سهل أيضاً، إضافة إلى تغييب كامل للدولة، حكومةً وقيادات، ما أثبت هشاشة الأمن مع ما يُعرف بالسلم الأهلي والعيش المشترك.
“اقعدوا عاقلين وتأدبوا”
بعد الحادثة بأيام قليلة، أطل الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله في 18 أكتوبر، وحمّل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، المسؤولية عن الاشتباكات التي حصلت. وقال إن “القوات اللبنانية تسعى إلى عودة الحرب الأهلية”، معتبراً أن “أكبر تهديد لأمن المجتمع المسيحي هو حزب القوات اللبنانية ورئيسه”. وأعلن أن الهيكل العسكري للحزب “يضم مئة ألف مقاتل مدربين ومسلحين في لبنان”، مهدداً بالقول “لا تخطئوا الحساب… اقعدوا عاقلين وتأدبوا”. واعتبر “حزب الله” أن إطلالة نصر الله وكلامه عن العناصر المئة ألف، في إطار “ردع مَن تسوّل له نفسه جر البلد إلى حرب أهلية”، وهو بذلك يقع في “مغالطة” وتناقض، إذ كيف يكون ذلك وعدد مسلحي الحزب يفوق عديد الجيش اللبناني، وأمينه العام وقف وهدد بأنه “إذا لم تحصل محاسبة، فلكل حادث حديث”.
كما “منّن” نصر الله “المسيحيين، بأنه لن ينجر إلى الرد، ليس ضعفاً بل كرم أخلاق منه، وأكثر من ذلك قال “ما عم نربّح حدا جميل، لكن يجب أن ننقل الواقع والحقائق”، مضيفاً أنه “بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، منعنا دخول أي مسلح من حركة أمل وحزب الله إلى مناطق المسيحيين”.
إلا أنه في الواقع لم تكُن حادثة الطيونة الأولى من نوعها ضمن إطار التهديد بالذهاب إلى حرب أهلية، فالكل يتذكر حادثة 7 مايو (أيار) 2008، التي أطلق عليها نصر الله تسمية “اليوم المجيد”، وحادثة التهديد بـ”القمصان السود” في يناير (كانون الثاني) 2011، حين أُسقطت حكومة سعد الحريري بينما كان في اجتماع مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، فحاول بعض الفرقاء ومنهم النائب السابق وليد جنبلاط إعادة الحريري إلى منصبه، إلا أن “حزب الله” أرسل عناصر مسلحة إلى كل أنحاء العاصمة بيروت وإلى المناطق الدرزية النائية. وكان التهديد المبطن الذي تنقله “القمصان السود” واضحاً، وكان لانتشارها دور في تعديل قرار جنبلاط وتسميته النائب نجيب ميقاتي حينها رئيساً للحكومة.
“حزب الله” والسلم الأهلي
هناك من اعتبر أن الرقم مئة ألف مبالَغ به، فيما رأى آخرون أن خطاب نصر الله أعطى زخماً في مكان ما لرئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع.
وأكد المسؤول الإعلامي في “حزب الله” محمد عفيف لـ”اندبندنت عربية” أن “الرقم مئة ألف صحيح، عندما يقول الأمين العام إننا نمتلك مئة ألف عنصر، فذلك صحيح. مصداقية الحزب في هذا الموضوع لا غبار عليها”. وبالنسبة إلى من اعتبر أن هذا الكلام يشكل تهديداً مبطناً، رأى عفيف أن “باستطاعة أي طرف في الداخل أو الخارج أن يفهم الموضوع كما يرغب، لكن الحزب لا يستخدم هذا الموضوع في الحرب النفسية”، مؤكداً أن “الحديث عن هذا العدد كان من أجل منع الحرب الأهلية، ولتوجيه تحذير لأي فريق من مغبة الانجرار إلى الحرب الأهلية”. وأضاف “كان الهدف من الإشارة إلى هذا الموضوع الرد على تقرير إعلامي تحدث عن أن القوات اللبنانية تمتلك 15 ألف عنصر وتتحضر ضمن مشروع ما، بغض النظر عن الأسباب، ربما يضر بالسلم الأهلي، فجاء الكلام في إطار الرد للقول إننا نمتلك قوة أكبر، تمنعكم من الانجرار إلى حرب أهلية”.
ما صفة “حزب الله” في الدفاع عن “السلم الأهلي”؟
لماذا يعتبر الحزب نفسه معنياً بالدفاع عن السلم الأهلي، ولماذا يوجّه التحذيرات إلى الفرقاء الآخرين؟ يعتبر محمد عفيف أن “هذا من باب التزام الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والعيش المشترك، وهو التزام قاطع وثابت ونهائي. وعندما يقول أحدهم إنه يمتلك 15 ألف مقاتل، يكون الحزب معني بالإجابة، لأن الحزب كان يتعرض لمشروع معيّن، ذلك أن العدد هو 15 ألف مسيحي ولكن ربما يكون المضمر محاولة تشكيل جبهة ضد حزب الله، بالتالي يكون الحزب معنيّاً بالرد”.
ولكن هل يُعتبر هذا الكلام رادعاً؟ يشير عفيف إلى أن “هذا الكلام قيل من أجل ذلك”، ويأمل في أن تكون “الرسالة وصلت إلى من ينبغي أن تصل إليه، بردعه وتحذيره ومنعه من التفكير مطلقاً بموضوع الحرب الأهلية”. واعتبر المسؤول الإعلامي في “حزب الله” أن “الهدف من خطاب نصر الله تحقق بعد أن خرج جعجع في إطلالة إعلامية وقال إنه لا يريد الانزلاق إلى حرب أهلية وهو سيواجه سياسياً الوضع القائم حالياً”. ونفى محمد عفيف وجود العناصر المسلحة عند بدء التظاهرة، موضحاً أنها “ظهرت عند وقوع القتلى السبعة” من جانب “حزب الله” و”حركة أمل”، مؤكداً أن “التظاهرة كانت سلمية وضمن القانون في الأساس. ونحن بانتظار انتهاء التحقيق”.
وعند سؤاله، هل ستقبلون بنتيجة التحقيق كيفما أتت؟ أجاب “إن السيد قال إننا سلّمنا كرامتنا وأنفسنا إلى التحقيق”. كما نفى عفيف علمه بأي تسوية كانت تحدثت معلومات إعلامية عنها، تتضمن المقايضة بين ملف انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) مقابل ملف حادثة الطيونة، مؤكداً أن “المقايضة غير واردة وغير مطروحة على الإطلاق”.
لا اجتماع للحكومة ولا استقالة
في السياق، ولدى سؤاله عن موقف “الثنائي الشيعي” من المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار والاعتكاف عن حضور جلسات مجلس الوزراء، قال عفيف إنه “ما لم يتم حل قضية المحقق العدلي طارق البيطار الذي يتهمه الحزب بالتسييس والاستنسابية وبتغييب وحدة المعايير عمداً، لا اجتماع للحكومة”. (يُذكر أن هذا الحوار أُجري قبل نشوء الأزمة بين لبنان والسعودية والدول الخليجية التي وقفت إلى جانب الرياض).
وعدنا وسألناه “لكن هذا الموقف وموقف وزير الإعلام جورج قرداحي، ألا يشكلان إحراجاً لحكومة نجيب ميقاتي الذي يحاول جاهداً فتح أبواب السعودية في وجهه، والحصول على مساعدات من الدول الخليجية؟”. فأجاب المسؤول الإعلامي في الحزب أن “هذا يشكل إحراجاً لكل الإعلام الذي هاجم قرداحي”، مؤكداً أن “لا استقالة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي على خلفية تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، وحكومته ثابتة ومستقرة مع أنها تعاني من قضايا عدة”.
المئة ألف عنصر إدانة لـ”حزب الله”
في المقابل، اعتبر رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب”القوات اللبنانية” شارل جبور أن “المئة ألف مقاتل يشكلون إدانة لحسن نصر الله نفسه ولحزبه، إذ إن لديه جيشاً على حساب الدولة والدستور والقانون والجيش اللبناني. وهذا التصريح ينم عن تسرّع وغياب للحكمة السياسية، ويدل بالملموس على أن كل محاولاته للترويج أنه مقاومة، لا علاقة لها بالواقع. وكان الانقلاب الأول على اتفاق الطائف بدأ من خلال إبقاء السلاح بيد حزب الله. فلا تستقيم دولة بوجود سلاحين”.
اقرأ المزيد
هكذا توالت الوقائع في يوم “اشتباكات الطيونة”
ميقاتي يتجنب مواجهة “حزب الله” وتدوير الزوايا لم يعد ينفع
فيصل بن فرحان: هيمنة “حزب الله” أساس الأزمة مع لبنان
حزب الله يستنسخ مقاومته للمحكمة الدولية بوجه تحقيقات تفجير المرفأ
“حزب الله” النشط في الحروب الإقليمية يتعثر على مداخل “عين الرمانة”
محطات مليئة بالانحياز وراء انهيار علاقة لبنان بالخليج
وقال جبور إن “عدد المئة ألف مقاتل لا يخيفنا، لأننا عندما أُجبرنا على القتال وسقط لنا آلاف الشهداء في الحرب اللبنانية، لم يكُن حزب الله وُلد بعد. ولكننا نأسف لوجود فريق سياسي يتباهى بأن لديه مئة ألف مقاتل ويهدد من خلالهم الشعب اللبناني، ويقول عليكم أن تخضعوا لإرادتي لأنكم لن تتمكّنوا من مواجهة سلاحي”.
أوامر إيرانية
ولفت شارل جبور إلى أنه “عملياً، المئة ألف مسلح يتحركون بقرار من القيادة الإيرانية، وربما يحمل هؤلاء هويات لبنانية، لكن قرارهم إيراني بإمتياز”. وذكّر جبور بقول نصر الله إنه “جندي في ولاية الفقيه”، بالتالي “إن مشروعهم هو تشييع لبنان والعمل على تحويل البلد إلى جمهورية إسلامية”. وتخوّف جبور على مشروع الدولة وعلى اللبنانيين، وقال “لن نخاف من أمثال حسن نصر الله، لأنه ليس أهم من حافظ الأسد، وتم إخراج جيشه من البلد. لا أحد أكبر من لبنان، لكن مجرد ذكره لعدد المئة ألف، يُعتبر استفزازاً وتحدياً للبنانيين، وانتهاكاً لإرادة الدولة والدستور والقانون والجيش، ومزيداً من الفوقية والاستكبار في حديثه إلى اللبنانيين”.
حماية السلم الأهلي “بالسلاح”؟
يرى جبور أنه “لا يمكن حماية السلم الأهلي في لبنان إلا من خلال الدولة ومن خلال الدستور والقانون والعدالة والشرعية”. وأكد أن “السلم الأهلي لا يُحمى من قبل سلاح ميليشياوي. هذا السلاح لا يمكن أن يكون للحماية، بل لإخضاع المجتمع اللبناني، والقول للبنانيين عليكم الخضوع أو نستخدم هذا السلاح من أجل إخضاعكم بالقوة. وهذا ما حصل في 7 مايو وهذ ما حصل في عين الرمانة، وفي كل مرة لا يتمكن الحزب من تحقيق مأربه عن طريق السياسة، وعن طريق بعض مؤسسات الدولة، يلجأ إلى استخدام سلاحه في الداخل. بالتالي هذا السلاح ووجود حزب الله، هو بحد ذاته مناقض للسلم الأهلي والدولة والدستور”. وتابع أن “ما حدث في الطيونة، سيتكرر طالما هناك فريق مسلح اسمه حزب الله، لا يكترث لا للقانون ولا للدستور، ويستخدم القوة والعنف في كل مرة لا يحقق مراده. وكي لا يتكرر ما حصل في الطيونة، على الحزب تسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية، وأن ينتظم تحت سقف القانون”.
لا مقايضة بين المرفأ والطيونة
من جهة أخرى، أكد جبور أنه “لا يمكن للقوات اللبنانية أن تقبل أي صفقة أو مقايضة على دماء الناس، هناك مدينة دُمّر نصفها، ورُوّع أهلها، ولا يمكن القبول بأي صفقة ولا أي تسوية بهذا الشأن. وملف المرفأ منفصل عن ملف الطيونة، لكن يبدو من خلال تهديدات نصر الله للقاضي البيطار منذ أربعة أشهر، أنه هو الذي يربط بين المسألتين، وقام بتعطيل الحكومة من أجل إسقاطه. كما ذهب (مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في الحزب) وفيق صفا إلى حد تهديد البيطار داخل قصر العدل، وعندما تعذر عليهم إقالته، ذهبوا إلى استعمال القوة علّهم يستطيعون فرض الأمر. نحن نريد الذهاب إلى النهاية في التحقيقات من خلال القاضي البيطار، وننتظر قراره الظني”.
اندبندت عربي