في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، في الذكرى الـ 72 على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، أرسلت بكين 38 طائرة عسكرية إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي (ADIZ) في تايوان، وهو يُعد أكبر عدد أرسلته على الإطلاق في يوم واحد. في اليوم التالي، حطمت بكين رقمها القياسي مرة أخرى بإرسال 39 طائرة إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي في تايوان . ثم في 4 أكتوبر، أرسلت 56 طائرة، محطمة الرقم القياسي اليومي مرة أخرى، خلال عام اخترقت فيه طائرات الصين العسكرية منطقة الحظر الجوي 173 يوماً من أيامه.
في الواقع، يبدو أن الصين تتدرب على عمليات قتالية مشتركة بالقرب من تايوان. إضافة إلى زيادة وتيرة رحلاتها، تدمج بكين عدداً كبيراً من الطائرات المقاتلة مع قاذفات ومعدات ذات قدرات نووية مركزةً على الحرب المضادة للغواصات والمراقبة الجوية. كذلك، تستعرض الصين قدرتها على إجراء عمليات عسكرية ضد تايوان في جميع الأوقات، 365 يوماً في السنة. كما أنها تقوم ربما بتوسيع هذه الرحلات الجوية وجعلها روتينية لخداع تايوان والولايات المتحدة وجعلهما تعتادان على العمليات العسكرية الصينية بالقرب من الجزيرة، ما يسمح لبكين بأن تخفي بسهولة أكبر استعداداتها لشن هجوم فعلي على تايوان كجزء من الأنشطة “العادية”.
تجدر الإشارة إلى أن سلوك الصين العدواني بشكل متزايد يجعل وقوع حالة طوارئ في المضيق أكثر احتمالاً. لكن خطر حدوث أزمة لا ينبع من احتمال شن غزو صيني فوري بقدر ما ينبع من حادث أو حسابات خاطئة تتحول إلى مميتة، مثل الاصطدام الجوي بين الطائرات الصينية والتايوانية، أو قرار صيني بانتهاك المجال الجوي السيادي التايواني ما يحمل الجزيرة على إسقاط الطائرة. ومن المرجح أن تواصل بكين تصعيد تهديداتها عن طريق تحليق طائراتها قريباً من تايوان وربما حتى فوق الجزيرة نفسها. في مرحلة معينة، ستضطر تايبيه إلى الرد، سواء من خلال تعزيز المراقبة والتحذيرات أو بالقوة العسكرية. لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع تايوان لاستباق الأنشطة العسكرية الصينية والرد عليها من دون إثارة أزمة. في الحقيقة، لم يعد التحضير لغزو صيني واسع النطاق في تايوان يشكل استراتيجية أميركية كافية. يجب أن تستعد واشنطن أيضاً لوقوع خطأ فادح أو هفوة من المحتمل أن تنفجر متحولة إلى صراع مفتوح.
ومع تصعيد الصين لسلوكها العدائي، حسنت تايوان ردود أفعالها. في البداية، أطلقت تايبيه طائرات مقاتلة لاعتراض كل طائرة صينية تقترب. وعلى الرغم من ذلك، بحلول أوائل عام 2021، أدى العبء اليومي الناجم عن الاضطرار إلى إرسال مقاتلات إلى اعتماد تايوان بشكل أكبر على أنظمة الدفاع الجوي الأرضية في مراقبة التدخلات الصينية. في المقابل، يدرك قادة الجزيرة أن حتى هذه الإجراءات لن تكون كافية إذا واصلت بكين التصعيد. فعلى سبيل المثال، أشار في 2021 تقرير الدفاع التايواني الرباعي [الذي يصدر كل أربع سنوات]، إلى أن تايبيه ستتبنى رداً أكثر صرامة مع اقتراب العدو. ووفقاً لتقارير إعلامية متعددة، ناقش مسؤولون في وزارة الدفاع الوطني التايوانية والقوات الجوية وخفر السواحل بصراحة مجموعة من الردود على العمليات العسكرية الصينية، بناءً على طبيعتها وبعدها عن الجزيرة. كما تشير بعض التقارير إلى أن تايوان ربما تكون قد أنشأت بالفعل ثلاث مناطق منفصلة، وهي منطقة “مراقبة” للأنشطة الصينية على بعد 30 ميلاً بحرياً من تايوان، ومنطقة “تحذير” للخروقات الصينية في نطاق 24 ميلاً بحرياً، ومنطقة “تدمير” لمصادر التهديد ضمن حدود 12 ميلاً بحرياً.
واستطراداً، ورد داخل منطقة التدمير أن سلاح الجو التايواني قد حدد بعض إجراءات الرد، على سبيل المثال من خلال الاستعداد لاعتراض الطائرات المتسللة أو إجبارها على الهبوط. إذا تم الإدراك بأن مثل هذه الطائرات لها نوايا عدائية، يمكن للقوات الجوية التايوانية أن تركز رادارها على الطائرة، أو تطلق طلقات تحذيرية، أو حتى تضربها استباقياً لإسقاطها. وبهدف الحؤول دون التصعيد، لا يُسمح للطيارين التايوانيين بإطلاق النار أولاً ما لم تتلق الأوامر بذلك من مقر القوات الجوية. وفي حال اندلاع أزمة، قد يسع القوات الجوية السماح بضربات مماثلة من دون الحصول على موافقة أخرى من كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين في تايوان.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الردود تشبه تلك التي تقدم عليها بلدان تواجه تهديدات مماثلة. فعلى سبيل المثل، أطلقت كوريا الجنوبية مئات الطلقات التحذيرية في عام 2019، عندما اقتحمت طائرة روسية المجال الجوي فوق جزر دوكدو المتنازع عليها، والمعروفة في اليابان باسم جزر تاكيشيما. في الواقع، سيكون من غير المقبول سياسياً ألا يدافع أي زعيم تايواني عن الجزيرة في وجه غارات صينية. على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين قد يفضلون ألا ينفق قادة تايوان مواردهم العسكرية المحدودة للرد على الرحلات العسكرية الصينية، إلا أن الضرورات السياسية المحلية ستجبرهم على الأرجح على القيام بذلك.
حتى الآن، لم تحلق الطائرات العسكرية الصينية بعد ضمن نطاق 12 ميلاً بحرياً من جزيرة تايوان الرئيسة (أي ضمن مجال تايوان الجوي الإقليمي الذي يبعد عن الجزيرة 12 ميلاً بحرياً)، على الأقل وفقاً للتقارير العامة. لكنها اقتربت تدريجياً من جنوب غربي تايوان وجزيرة براتاس التي تديرها تايوان الواقعة في بحر الصين الجنوبي على بعد 275 ميلاً تقريباً من تايوان. إذا استمرت التوترات في الارتفاع، فإن مسارات الطيران والتدريبات الصينية في السابق تشير إلى أن بكين يمكن أن تصعد بسهولة العمليات الجوية على الأقل بواحدة من هذه الطرق الثلاث، عن طريق الطيران بشكل أقرب من تايوان، بما في ذلك الجانب الشرقي من الجزيرة أو بالقرب من وسط أو شمال مضيق تايوان، ومن خلال تقويض سيطرة تايوان على براتاس أو الجزر البحرية الأخرى التي تديرها تايوان، على الأرجح من خلال التحليقات الجوية المنتظمة، والطريقة الأكثر استفزازاً، بالتحليق مباشرة فوق تايوان.
قد تشعر تايبيه بأنها مضطرة لإسقاط طائرة صينية
قد يوسع الخيار الأول النطاق الجغرافي للأنشطة العسكرية الصينية إلى ما وراء الركن الجنوبي الغربي من منطقة الدفاع الجوي، ويقرب الطائرات الصينية من المناطق الأكثر حساسية والأقل تحصيناً في تايوان. لكن الخيارين الثاني والثالث أكثر خطورة. إذ يمكن للصين جعل الرحلات فوقها أمراً روتينياً، من أجل تحدي إدارة براتاس التايوانية، ما يجبر تايبيه إما على الدفاع عن مجالها الجوي أو الإذعان للتوغلات الصينية المنتظمة. قد تكون مثل هذه الرحلات بمثابة اختبار لدفاعات تايوان وطريقة استجابتها قبل أن تحاول الصين التحليق فوق الجزيرة الرئيسة.
بطريقة موازية، قد تحاول الصين أيضاً استخدام إحدى هذه المناورات التصعيدية لإجبار تايبيه على أن تكون أول من يستخدم القوة، الأمر الذي قد يبرر بعد ذلك عملية عقابية صينية أكبر ضد تايوان. في هذا السياق، وصفت غلوبال تايمز، وهي صحيفة يومية وطنية تديرها الدولة، ما تشير إليه التقارير عن تقسيم المجال الجوي التايواني إلى مناطق دفاعية بأنه “سخيف للغاية”، معلنة أن الجيش الصيني “مستعد لإرسال طائرات حربية للتحليق فوق جزيرة تايوان لتوكيد السيادة”. وبينما كان المسؤولون الصينيون أقل وضوحاً، فقد جادلوا بأن العمليات والتدريبات العسكرية ضد تايوان مشروعة وضرورية لحماية السيادة الصينية.
إذا تجاهلت بكين الخطوط الحمراء المحتملة التي وضعتها تايوان، فهي تخاطر بإثارة أزمة، خصوصاً إذا دخلت طائراتها العسكرية منطقة “التدمير” المبلغ عنها في الجزيرة. ويمكن أن تؤدي المناورات العدوانية التي يقدم عليها الطيارون الصينيون أو التايوانيون إلى وفاة غير مقصودة في الجو تشبه تلك التي حدثت في عام 2001، عندما اصطدمت طائرة مقاتلة صينية بطائرة استطلاع أميركية، ما أدى إلى مقتل الطيار الصيني وإجبار الطائرة الأميركية على القيام بهبوط اضطراري في الصين. وإذا حاولت بكين إرسال طائرات عسكرية للتحليق مباشرة فوق تايوان نفسها، فقد تشعر تايبيه أن الخيار الوحيد أمامها هو إسقاط الطائرة.
وحتى الاصطدام العرضي في مضيق تايوان يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة. منذ أزمة مضيق تايوان عام 1958، عندما قصفت الصين جزر تايوان البحرية، لم يتكبد أي من الطرفين خسارة في الأرواح خلال المواجهة عبر المضيق. ولكن اليوم إذا تغير ذلك، سيكون الطرفان غير مهيئين لإدارة التداعيات السياسية المحلية، ويمكن إجبارهما على اتخاذ مواقف أكثر صرامة وأقل مرونة. علاوة على ذلك، إذا تعرض طيار مقاتل صيني للقتل، فقد تقرر بكين عدم الالتزام بالدبلوماسية إلا بعد معاقبة تايوان. وبما أن قنوات الاتصال عبر المضيق كانت خامدة لأكثر من خمس سنوات، يمكن أن يؤدي سوء التفاهم المتبادل بسهولة إلى مزيد من التصعيد.
إدارة الأزمة
من المؤكد أن الولايات المتحدة يجب أن تستعد لغزو صيني في تايوان، ما يعني ضمان امتلاكها قدرة عسكرية تمنع الصين من الاستيلاء على الجزيرة، والتوضيح لبكين أن هجوماً غير مبرر سيكون له ثمن باهظ. ولكن يجب على الولايات المتحدة أيضاً الاستعداد للسبب الأكثر احتمالاً على المدى القريب وراء وقوع أزمة في مضيق تايوان، حادث أو سوء تفاهم يدفع كلا الجانبين إلى حافة الحرب.
ولتحقيق هذه الغاية، يجب على واشنطن تعزيز قدرة تايوان على الصمود وتحمل الضغط العسكري الصيني. كما حري بها أن تساعد تايوان على ردع الأنشطة الصينية الأكثر تهديداً والعمل معها لتطوير ردود فعل على استفزازات جارتها. يمكن للمسؤولين الأميركيين والتايوانيين مثلاً إجراء تدريبات ومناورات محاكاة تركز على العدوان الصيني المتزايد الذي لا يرقى إلى مستوى الحرب، ومساعدة قادة الأمن القومي في تايوان على التفكير ملياً في تداعيات الردود المختلفة، بما في ذلك الدفاع عن الخطوط الحمراء المحتملة.
على واشنطن مساعدة تايوان على تطوير سبل الرد على استفزازات الصين.
وبهدف الاستعداد إلى احتمال وقوع حادث عسكري أو شبه عسكري في مضيق تايوان، يجب أن تتصدر أولويات الولايات المتحدة الحفاظ على قنوات اتصال موثوقة لحل لأزمات مع كل من الصين وتايوان. يمكن لواشنطن أيضاً أن تبلغ بكين بشكل سري ببعض الخطوط الحمراء التي تفرضها تايبيه وتحذر القادة الصينيين من تخطيها. في الوقت نفسه، يمكنها العمل مع الحلفاء والشركاء لإقناع الصين بالعواقب المزعزعة للاستقرار الناتجة من خطوات تهديد تايوان. حين تبرز الحاجة، قد ترغب الولايات المتحدة حتى في تشجيع تايبيه على الكشف علناً عن بعض آرائها في الأنشطة العسكرية الصينية، والإشارة إلى الأوقات والأسباب التي قد تجبرها على الرد باستخدام القوة العسكرية.
ومع تصعيد الصين للقمع العسكري في تايوان، سيزداد خطر حدوث أزمة عرضية. إذاً، يجب على تايوان والولايات المتحدة مواصلة العمل معاً لردع الغزو الصيني للجزيرة، لكن هذه الأجندة لم تعد كافية للحؤول دون الصراع. ينبغي على تايبيه وواشنطن أيضاً تطوير ردود أفعال تجاه الضغوط العسكرية الصينية، تقلل من خطر حدوث هفوة أو خطأ فادح مميت. وتشير تقارير إلى أن جو بايدن، الرئيس الأميركي الحالي، أبلغ الرئيس الصيني شي جينبينغ أن “الشيء الوحيد الأسوأ من الحرب هو الحرب غير المقصودة”. والآن، مع زيادة خطر نشوب حرب من هذا القبيل على تايوان، يتحتم على بايدن المساعدة في تفاديها.
اندبندت عربي