بايدن .. أسد بلا أنياب

بايدن .. أسد بلا أنياب

كانت فترة حكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، كارثة للأميركيين والعالم، فقد خفّض الضرائب عن الأغنياء، وألغى بنودا في سياسة التأمين الصحي المعروفة بـ “أوباما كير”، ما أدّى إلى زيادة العبء على الأميركيين الفقراء، وكذب فيما يتعلّق بوباء كوفيد 19، ما زاد في أعداد الإصابات والوفيات، وحاول أن يعزل أميركا عن جيرانها والعالم، واستسلم للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي كان له عليه دالّة كبيرة، وانسحب من معاهدة باريس للمناخ، وروّج نظريات المؤامرة، وتغاضى عن العنصريين البيض، وغضّ الطرف عن جرائم فردية وجماعية، يندى لها الجبين في شتّى أصقاع الأرض، ومنع المسلمين من دخول بلاده، وأساء للمرأة والملونين، وحارب المثليين والمشرّدين والمستضعفين في الأرض. ولكن كان يتمتع بميزة واحدة: كان مسلياً.

خلفه، جو بايدن، يفتقد هذه الميزة. تغلّب على ترامب بفارق سبعة ملايين صوت، فحصد أكثر من 81 مليون صوت مقابل 74 مليون صوت لترامب. وبذلك حصل على أعلى عدد من الأصوات في تاريخ الانتخابات الأميركية قاطبة. وفاز حزبه الديمقراطي بأغلبية مجلسي الكونغرس: النواب والشيوخ، وكان كلّ شيء مهيأ لشهر عسل، يفترض أن يمتد سنتين على الأقل، حتى الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. ومع ذلك، لم نرَ هذا الوهج الذي كان من المفترض أن يصحب رئاسة بايدن، لا في الولايات المتحدة ولا في العالم الواسع. في الداخل، جاء متحوّل دلتا ليعيد الوباء إلى المربع الأول، وشنّ المحافظون حربا لا هوادة فيها على سياسات بايدن حيال الوباء، رافضين التلقيح الإلزامي وارتداء الكمامات في المدارس والجامعات، مسيّسين بذلك مسألةً يجب أن تكون صحية في الأساس، أودت حتى الآن بحياة أكثر من 740 ألف أميركي.

لم يستطع بايدن توحيد صفوف حزبه الديمقراطي لتمرير موازنة خطّة البنية التحتية المادية والإنسانية

وجاءت الضربة الثانية لسياسة بايدن في سقوط أفغانستان خلال أسابيع قليلة من انسحاب القوات الأميركية منها وعودة حركة طالبان للاستيلاء على مقدّرات الأمور في البلاد، ما يعني أن عشرين سنة من الحرب الأميركية هناك قد انتهت بفشل ذريع.

ثم أتى التضخم المتسارع وغير المسبوق والارتفاع الكبير للأسعار وفقدان بعض المواد في السوق الأميركية بسبب سلسلة التوريد، ليزيد من تعاسة الرئيس بايدن، ويقلل من تأييده بين الأميركيين. وهوت شعبية الرئيس في أحدث استطلاع لشبكة إن بي سي من 53% في شهر إبريل/نيسان إلى 42% فقط أواخر أكتوبر/تشرين الأول.

ولم يستطع الرئيس بايدن توحيد صفوف حزبه الديمقراطي لتمرير موازنة خطّة البنية التحتية المادية (جسور وشوارع) والإنسانية (تعليم وصحة ورعاية أطفال ومسنين). ولا يزال اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين يختطفان قرار الحزب والكونغرس، السيناتوران جو مانشين وكرستين سينما، اللذان يستمتعان بمقدرتهما على تعطيل المسار التشريعي. يخشى مانشين أن يفقد مقعده في الانتخابات المقبلة في ولايته (ويست فرجينيا) المحافظة، إن هو صوّت لصالح حزمة ليبرالية واضحة المعالم. أما سينما فلا أحد يعرف بالضبط لماذا تعارض الحزمة، فهي ببساطة لم تفصح عن ذلك.

باتت مقاومة الاثنين تغييرا كبيرا وحقيقيا عقبة كأداء في وجه سياسة الرئيس بايدن، الذي وعد بإنهاء الانقسام داخل حزبه قبل سفره إلى روما وغلاسكو لحضور قمتي العشرين والعالم للمناخ، ولكنه سافر قبل أن ينجز وعده. حدّدت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، موعدا نهائيا في 31 أكتوبر/تشرين الأول لمجلس النواب، لتمرير مشروع قانون كبير للإنفاق على البنية التحتية، بعد أسبوع من المفاوضات المتبقية، قبل أن يطوي النسيان خطة الإصلاح الشامل للسياسة الاجتماعية والبيئية للرئيس بايدن. ولكن الديمقراطيين التقدّميين في مجلس النواب رفضوا التصويت على مشاريع قوانين البنية التحتية، قبل التوصل إلى اتفاق في مجلس الشيوخ بشأن مشروع قانون منفصل، يتضمن إنفاقا ضخما على قضايا زيادة رعاية الأطفال، والمساعدة في الرسوم الدراسية الجامعية، والإجراءات الرئيسية بشأن تغير المناخ.

الفجوة بين دوري السيناتور والرئيس سبب عدم فاعلية بايدن، فلم يقم الرئيس بحملته على أساس هدف شامل أو فكرة أساسية

دولياً، تمّ استقبال الرئيس بايدن بترحابٍ حار، وتنفّس العالم الصعداء بعد رحيل سلفه الكاريكاتوري. ورحبت أوروبا وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأفريقي ومعظم دول آسيا بفوز بايدن، وبقراراته الأولية في العودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، والتبرّع بمئات ملايين الجرعات من لقاح كوفيد للدول الفقيرة، وإعادة ملف حقوق الإنسان إلى أولويات الإدارة الجديدة، والرغبة في بدء محادثاتٍ مع إيران. دول قليلة لم تُبدِ سعادة تذكر: روسيا التي فقدت حظوتها لدى ترامب؛ والصين التي استشعرت أنها ستكون في مقدمة أولويات بايدن؛ والسعودية التي تعرف أن الرجل يعارض سلوكها في تصفية أعدائها وخصوصا جمال خاشقجي؛ وإسرائيل التي عاشت أيامها الذهبية في ظل ترامب الذي نقل سفارته إلى القدس المحتلة، واعترف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، وغضّ الطرف عن استشراء المستوطنات كالسرطان في الأراضي الفلسطينية، والتي لا تحب كثيرا عودة بايدن إلى طرح حلّ الدولتين. ولكن الترحاب الحار بدأ يخفت، وقد راح العالم يدرك أن جو بايدن قد يكون مليئا بالنيات الحسنة، ولكنه رئيس بلا أنياب، ليطبق النيات على الأرض.

يشترك القادة الناجحون في عدة أمور. إنهم يبنون حياتهم المهنية العامة حول فكرة أساسية، مثل رؤية توماس جيفرسون للجمهورية الزراعية، أو إيمان فرانكلين روزفلت بحكومة وطنية قوية ورحيمة. يستخدمون الخطاب لحشد الجمهور وراءهم، حتى لا يكون هناك أي لبس أو خطأ فيما ستأتي به نتائج الانتخابات. وهم متسقون في متابعة أهدافهم، حتى لو كانت التفاصيل النهائية خاضعة للتفاوض. ولو نظرنا إلى الرؤساء الذين غيروا وجه الولايات المتحدة: جيفرسون، لينكولن، روزفلت، رونالد ريغان، لوجدنا أنهم يشتركون جميعا في الخصائص ذاتها. ليس بايدن مثل هؤلاء. كان في المشهد السياسي ما يقرب من 50 عامًا، ولا يمكن للمرء ببساطة أن يربط به مبدأ أساسيا واحدا. بدلاً من ذلك، يتنقل الرجل من مدّ إلى جزر ومن موقف إلى موقف، حسب سياق المرحلة. ولعل ذلك أن يكون أمرا مناسبا في مجلس الشيوخ، حين كان الرجل عضوا فيه، حيث كان قادرا على مدّ الجسور بين الحزبين، وبين المعتدلين والليبراليين في حزبه، ولكنه بالتأكيد أمرٌ مرفوض في سدّة السلطة التنفيذية.

بايدن ليس روزفلت بشجاعته، وليس كينيدي بحماسته وتوقّده، وليس ريغان بخبثه وتصميمه على إطلاق يد الاحتكارات، وليس كلينتون بسحر شخصيته

الفجوة بين دوري السناتور والرئيس سبب عدم فاعلية بايدن. لم يقم الرئيس بحملته على أساس هدف شامل أو فكرة أساسية. بل قدّم نفسه بدلاً من ذلك أنه يمثّل عودة الاستقرار والحالة الطبيعية بعد أربع سنوات مضطربة من دونالد ترامب. في 1932، انتخب الأميركيون الديمقراطي فرانكلين روزفلت، لأنهم عرفوا أنه يؤمن بأن الحاجة إلى اتخاذ إجراءات طارئة للخروج من الركود العظيم أكبر من الألعاب السياسية. تماما كما عرفوا في عام 1980 أن الجمهوري ريغان يريد ضرائب أقل وميزانيات دفاع أكبر. أما بايدن فينتقل من الجناح المعتدل في حزبه (جو مانشين) إلى الجناح التقدّمي (بيرني ساندرز) كما ينتقل من الكنبة إلى الكرسي، من دون أن يرضي أيا منهما. ليس هذا السلوك قيادةً، ولا بدّ أن يكون لمثل هذا الالتفاف العسير تكاليفه. وينظر المستقلون إلى بايدن نظرة سلبية بشكل متزايد، ويزداد التمرّد في الحزب الديمقراطي قوة، فلا المعتدلون يريدون التنازل عن مواقفهم الأكثر محافظة، ولا الليبراليون راضون بالتنازل عن مواقفهم التقدّمية، ما سيجعل الحزب بأكمله يواجه مشكلة محتملة في انتخابات التجديد النصفي للعام المقبل.

في السياسة، الضعف يولّد الضعف: يعرف السياسيون الأذكياء متى تغرق السفينة وكيف يستطيعون التملّص منها. بايدن ذكي، ولكن تقدّمه في العمر ورغبته في أن يكون رجل تسوية بين الأفكار والتكتلات السياسية، إضافة إلى فجور الوباء وقضايا المناخ وأفغانستان، ذلك كله يكبّل يديه ويمنعه من استخدام ذكائه بما يخدم الأمة والعالم، ويخدمه شخصيا.

باختصار، جو بايدن ليس فرانكلين روزفلت بشجاعته، وليس كينيدي بحماسته وتوقّده، وليس ريغان بخبثه وتصميمه على إطلاق يد الاحتكارات، وليس كلينتون بسحر شخصيته ونفاذ بصيرته. إنه مجرّد رئيس ديمقراطي عجوز، خَلَف ثعلبا مراوغا، فصار أشبه ما يكون بأسدٍ بلا أنياب.

العربي الجديد