أول مرة، ومنذ عام 2005، مارس سنّة العراق، السياسة، بشكل ذكي وممنهج خلال اللعبة الانتخابية التي لطالما دخلوها مشتتين، وبعناوين مهلهلة لشخصياتٍ إما ترتبط بأحزاب إسلامية أو بعناوين قبلية لملمتها الكتل الشيعية الكبيرة لتدخلها مجال المحاصصة الطائفية، بما يعطي انطباعاً كاذباً لما تسمى الديمقراطية في العراق الجديد المنشأ على أنقاض عراقٍ احُتل أميركياً وبريطانياً ثم إيرانياً عام 2003.
في المقابل، شهد البيت الشيعي، ممثلاً بالقوى والأحزاب الشيعية الكبرى، سواء من جاء عبر القطار الأميركي أو من فرضته إيران أمرا واقعا على المشهد الشيعي أولاً، ثم على المشهدين، السياسي والأمني، العراقيين لاحقاً، تراجعاً كبيراً ليس في خسارته الانتخابات العراقية (10/10/2021)، وإنما لجمهورهم الذي ظنوا أنهم أدوات بأيديهم، وأنهم مهما تظاهروا أو اعترضوا على سلوكهم وفسادهم، فإنهم، في النهاية، سيغلّبون نُصرة طائفتهم (الشيعية)، والاحتفاظ بمقاليد الأمور في العراق، كما عبر عن ذلك، وفي أكثر من مناسبة، زعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، بمقولته المعروفة “ما ننطيها”. بل هناك من يقول إن شيعة جنوب العراق الذين شاركوا في الانتخابات، على قلتهم، اختاروا شخصياتٍ سنيّة ليصوتوا لها، ليثبتوا لأنفسهم ولأبناء جلدتهم أولاً، أنهم فوق الطائفية المقيتة، ثم ليساهموا في إسقاط من عبث بهم وبالعراق، وجعله رهين سياسات إقليمية مدمّرة على المستويين، المنظور والبعيد، تحت شعارات طائفية أيضاً.
البيت الشيعي، وبعد ظهور نتائج الانتخابات التي أبرزت الكتلة الصدرية فائزا أول فيها، وصعودا لافتا ومهما للكتلة السنّية العربية، مضافاً إليها تفوق الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتسيده المشهد الإنتخابي في كردستان العراق، هذا البيت الذي اصطلح على تسميته “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية”، وكان قادة الأحزاب والتكتلات والمليشيات الولائية يظنونه متيناً وحصيناً وقادراً على مسك الأمور وإدارة الملفات والأزمات، وجدوه، هذه المرّة، واهناً كبيت العنكبوت، سرعان ما وصل إلى حد التفكّك، مع تأكيد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، أن لا تغيّر في نتائج الانتخابات البرلمانية، وأن نتائج العد والفرز اليدوي للمحطّات المشكّك في نتائجها من هذه الأحزاب مطابقة مائة بالمائة لنتائج الانتخابات المعلنة سابقاً.
فوز مقتدى الصدر بالانتخابات وعدم اكتراثه بالبيت الشيعي إطارا سياسيا طائفيا لشيعة العراق شكل ضربة قاصمة لهذا البيت وأفضى إلى تصدّعه
يمثل هذا التطور الكبير في مشهد المحاصصة الطائفية في العراق انهياراً لقوى فاسدة وأخرى دموية قتلت آلافا من العراقيين وغيبتهم من باب الترهيب، قوى ظنت وأرسلت رسائل ظنِّها هذا إلى من تربطهم بها صلات وثيقة (إيران) أنهم باتوا خياراً طبيعياً يفوز بشعارات طائفية أو خدمات آنية للناخبين أو بالتزوير، كما حصل في كل الانتخابات السابقة. ومثالا على هذه القوى، يبرز “تحالف الفتح”، بزعامة هادي العامري، الذي يمثل الرقم الأقوى إيرانياً في العراق، ويشرف، بشكل كامل، على تشكيلات الحشد الشعبي. كما يضم أيضاً تحالف “قوى الدولة” الذي يقوده عمّار الحكيم وحيدر العبادي وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، إضافة إلى قوى ومجاميع تتفاوت في حجوم عديدها وقوة حضورها في الشارع.
فوز مقتدى الصدر بالانتخابات وعدم اكتراثه بالبيت الشيعي إطارا سياسيا طائفيا لشيعة العراق شكل ضربة قاصمة لهذا البيت وأفضى إلى تصدّعه. كما أن دخول سنّة العراق بقوة إلى مجلس النواب بصحبة التيار الصدري والمكوّن الكردي العراقي يمثل بداية مرحلة جديدة، قد لا تشكل ثورة ضد الطائفية والفساد بوقت قياسي، لكنها أثبتت للشعب العراقي أنه قادر على إجراء التغيير، وأن الرضوخ والسكون لما كان يملى عليهم، سواء من الساسة الفاسدين أو باستخدام الدين غطاء لتمرير قوائم وكتل معينة، كان من أسباب ما وصل إليه العراق من تردٍّ وتراجع على الصُعُد كافة.
هل سيقبل العراقيون بجبر خواطر الفاشلين، ممن أذلهم وقتل أبناءهم وسرقهم؟
هل انتهى المشهد العراقي عند هذه الصورة؟ وهل استسلم أرباب الفساد والهيمنة المسلحة لهذا المآل؟ حتى اللحظة، تبدو الأمور غير حتمية النتائج؛ فقد يجد العراق نفسه وسط موجة عنيفة من صراعات داخلية قد تفضي إلى حربٍ داخلية تخلط الأوراق. نعم، ما تزال هناك فصائل وقوى تطلق على نفسها “المقاومة الإسلامية”، أبرزها عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله العراق، وحركة النجباء، وسواها، تهدّد بأنها ستستخدم قواها المسلحة للضغط باتجاه إعادة الانتخابات، وأنها لن تسمح للولايات المتحدة أن تبعدها عن المشهدين، السياسي والأمني، في العراق.
قد يكون هناك تواطؤ مقبل في التركيبة السياسية في العراق؛ كأن تعطى مناصب ومكاسب للقوى الشيعية الخاسرة في الانتخابات من باب الترضية والتهدئة لقوى بعينها، لكنها لن تكون كما كانت ما قبل هذه الانتخابات بالتأكيد. ومع هذا السيناريو، يبرز السؤال الأصعب: هل سيقبل العراقيون بجبر خواطر الفاشلين، ممن أذلهم وقتل أبناءهم وسرق ثرواتهم وحجب عنهم الخدمات والعيش الكريم 18 عاماً، وما زال يمارس معهم كل أشكال التهديد والترهيب، لضمان بقاء سطوته المسلحة في مناطق العراق كافة؟ أم سيكون العراق مع موعد جديد من الحراك الشعبي المدعوم، والداعم لقوى حققت شرعيتها من خلال الانتخابات أخيرا؟
فارس خطاب
العربي الجديد