تهيمن عناصر المواجهة -وليس التعاون أو المنافسة- على جوهر العلاقات بين أمريكا والصين، رغم الآمال في إقامة تعاون بين القوتين العظميين من أجل التصدي للتحديات المشتركة.
يمثل هذا الطرح الفكرة الأساسية لتحليل أعده ماثيو كرونيج، الخبير والاستاذ بجامعة جورج تاون، ونائب مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي، ودان نجريا، الزميل البارز بالمركز، ونشرته مجلة “ناشونال انتريست” الأمريكية. وبحسب التحليل، ينصب جُل الحديث في واشنطن على “المنافسة” مع بكين.
وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال في وقت سابق العام الجاري، أن سياسة بلاده تجاه الصين تشمل مزيجا من “التعاون، والمنافسة، والمواجهة،” ولكن كرونيج ونجريا يقولان إن بلينكن، للأسف، كان على حق في ثلث ما ذكر فقط.
إذ أنه رغم الآمال الكبيرة في أن يكون هناك تعاون بين الدولتين بالنسبة للتحديات المشتركة، ورغم كل ما يقال في واشنطن عن ” المنافسة” بين القوى الكبرى، فإن الحقيقة المؤلمة هي أن العلاقات الصينية- الأمريكية تهيمن عليها بصورة متزايدة عناصرها التي تنطوي على المواجهة.
وفي أعقاب “الاستراتيجية الوطنية الأمريكية” لعام 2017، صار مصطلح “المنافسة بين القوى الكبرى” هو الشعار في واشنطن، حيث تقر الوثيقة على نحو صائب بأن الاستراتيجية الأمريكية السابقة والتي ركزت على محاولة جعل الصين “طرفا مؤثرا مسؤولا”، في إطار نظام عالمي يقوم على القواعد، قد فشلت، وبأن هناك حاجة لنهج جديد أكثر حدة. وقد طورت إدارة بايدن هذا المصطلح إلى “المنافسة الاستراتيجية”، وتعهدت بأن تعطي أولوية للمجالات الأكثر أهمية واستراتيجية.
ولكن المنافسة ليست الكلمة الأفضل في أي من الحالتين، حيث إن أي منافسة تنطوي على أن الأطراف المعنية ملتزمة بنفس القواعد المتفق عليها.
ولكن العلاقة بين أمريكا والصين، بحسب كرونيج ونجريا، لا يمكن وصفها بالمنافسة، لإن حزب الشعب الصيني يخرق بشكل ممنهج القوانين والأعراف الدولية المقبولة بشكل عام. وفي المجال الاقتصادي، تنقض بكين بقوة على النظام الاقتصادي العالمي، في تحد لالتزاماتها في إطار منظمة التجارة العالمية.
كما ينتهك حزب الشعب الصيني القانون الدولي الإنساني من خلال “جرائم ضد الإنسانية” و “أعمال إبادة جماعية” ضد مسلمي الأيغور والأقليات الأخرى في البلاد. وعلى الصعيد العسكري، تفرض بكين سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها مع جيرانها، بما في ذلك الجزر في بحر الصين الجنوبي، رغم الأحكام التي أصدرتها محكمة لاهاي ضد مزاعم بكين الزائفة.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، الشهر الماضي: “نرحب بالمنافسة الشرسة” مع الصين.
ويتساءل الخبيران كرونيج ونجريا: هل واشنطن “ترحب” حقيقة بالغش التجاري، وبأعمال الإبادة الجماعية، والعدوان على الأراضي؟ ويقولان إن وصف هذه الخروقات المنهجية للمعايير الدولية المقبولة بأنها “منافسة”، أمر بالغ السخاء. ولكن وصفها بـ “المواجهة” يعد أكثر صدقا.
ومن الصعب إيجاد ما يبرهن على وجود علاقات تعاون حالية بين أمريكا والصين. وحتى في المجالات التي يعبر فيها المحللون عن أملهم في المشاركة بين الطرفين، فإن أهم ما تتسم به هذه العلاقة هي “المواجهة”.
وفي مجال التغير المناخي، تعد الصين أكبر مصدر لغازات الاحتباس الحراري في العالم، بنحو 28 % من الانبعاثات الكربونية العالمية، أي حوالي ضعف الانبعاثات الأمريكية، وأكثر من انبعاثات الدول المتقدمة مجتمعة. وفي الوقت الذي تتعهد فيه واشنطن وقوى أخرى بخفض الانبعاثات، تتعهد بكين بزيادتها حتى عام .2030
وفي مجال الصحة العامة على المستوى العالمي، تمثل الصين مشكلة رئيسية، بعدما أسفر تأخر بكين في الكشف عن كوفيد19- إلى اندلاع جائحة عالمية، كما تقف بكين في وجه أي تحقيق يهدف إلى تحديد نشأة فيروس كورونا ، وهو ما قد يؤدي إلى احتمال تكرار الجائحة مستقبلا.
ويتكرر الأمر نفسه في مجال الحد من التسلح، حيث تجري الصين، على سبيل المثال، توسعا شاملا لأسلحتها النووية، بما في ذلك بناء مئات من صوامع الصواريخ النووية، وإنتاج قاذفات، وغواصات نووية، وصوارخ تتجاوز سرعة الصوت. وقد رفض الحزب الشيوعي الصيني الجلوس إلى مائدة التفاوض رغم مساعي الرئيسين الأمريكيين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب. ولا يتوقع أن يكون بايدن أحسن حظا!
ولذلك فإن القول بأنه يجب التعاون مع الصين بشأن التحديات العالمية، يشبه القول بأنه يتعين التعاون مع اللصوص من أجل خفض عمليات السرقة.
ورغم ذلك، يظل هناك بعض التعاون الهادف بين الطرفين، فواشنطن تريد من بكين، على سبيل المثال، الاستمرار في شراء المنتجات الزراعية الأمريكية. وتريد بكين من واشنطن الحفاظ على التزامها بسياسة “صين واحدة”، فيما يتعلق بتايوان. ولكن حتى هذه العناصر المتبقية للتعاون، تتحول على نحو متزايد إلى قضايا للنزاع.
ويقول كرونيج ونجريا إن الكلمات التي يستخدمانها لها تأثير حقيقي على الطريقة التي يجب أن يفكر بها الأمريكيون فيما يتعلق بالتحدي الصيني، وما يتعين القيام به تجاه ذلك. ويضيفان أنه يتعين على الحكومة الأمريكية، والشعب الأمريكي، والشركات والحلفاء والشركاء، أن يعوا جيدا أن هذه علاقة مواجهة على نحو متزايد، ويرجح أنها ستزداد سوءا قبل أن تتحسن.
ولا يعني هذا أن واشنطن تريد المواجهة مع بكين، بل من الواضح أنها تفضل علاقة تعاون، أكثر بكثير، ولكن لن يكون هذا ممكنا ما دام شي والحزب الشيوعي الصيني في السلطة. ولهذا السبب، يتعين على أمريكا وحلفائها الرد بقوة على أي انتهاك من قبل الصين للقواعد، ليدافعوا عن أنفسهم، وليظهروا لقادة الصين أن تحدي أمريكا وحلفائها صعب للغاية وذو تكلفة باهظة لبكين، وليس في صالحه الصين.
وفي ختام التحليل، يقول كرونيج ونجريا إن تحقيق تعاون مستقبلي مع الصين، سوف يتطلب مواجهة الآن، وعلى واشنطن وحلفائها وشركائها من أصحاب الفكر المتماثل، بذل الكثير لمواجهة الصين فيما يتعلق بممارساتها التجارية، والحقوقية المزرية، واعتداءاتها العسكرية، والتلوث، وسجلها المتدني للصحة العام، وتعزيز تسليحها النووي.
ويؤكد الخبيران أن سياسة المواجهة الحازمة في الوقت الحالي هي أفضل أمل أمام الولايات المتحدة لدفع بكين إلى تغيير مسارها، في نهاية المطاف، ووضع الأمورعلى مسار مستقبل تنافسي، وتعاون حقيقي.
(د ب أ)