ما مصير الشعوب التي هُزمت؟

ما مصير الشعوب التي هُزمت؟

كانت عملية إيواء أكثر من مليون لاجئ سوري في ألمانيا واحدة من أكثر أفكار المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل جنونا غير أن الأكثر جنونا أن تتخلى دولة عن مليون من مواطنيها مرة واحدة.

كان جنون ميركل عبقريا. لقد كشف اللاجئون السوريون عن قدرة مدهشة على الاندماج فانخرطوا في سوق العمل في مختلف مستوياته وأنواعه. وأثبت البعض منهم تفوقا لافتا في اختصاصه العلمي والفكري. كان من بينهم فنانون وأطباء ومهندسون ومحامون وتجار ومعلمون. وهو ما يعني أن مقامرة ميركل قد عادت على ألمانيا بالربح إضافة إلى أنها قدمتها واحدة من أكثر الدول الراعية لحقوق الإنسان والمدافعة عن إنسانيته.

ولكن ماذا عن سوريا التي صارت بلادا طاردة بعد أن كانت قد احتضنت بكرم استثنائي أكثر من ثلاثة ملايين عراقي بعد الاحتلال الأميركي وقبله؟

لا توجد إحصائية من جهة محايدة، لكن يُقدر عدد الهاربين السوريين من الحرب بأكثر من عشرة ملايين شخص. شعب كامل تخلت عنه دولته ورمته في عراء سؤال وجودي “إلى أين”؟ حتى بعد أن يتم قبوله لاجئا ويعيش حياة شبه مستقرة وآمنة تماما يبقى شعور السوري بالاقتلاع هو أساس وجوده الواقعي والمتخيل. فالأرض الحقيقية بالنسبة إليه هي سوريا. لم تكن جنة على مستوى التصريف الواقعي ولكنها كانت كذلك في الأحلام. من الصعب على المرء أن يقبل بفكرة أن بلاده لا تحبه وهي تستغني عنه في أي لحظة خلاف. فالملايين العشرة المشردة لا تمثل شعبا معارضا وإلا لكان في إمكانها إسقاط النظام السياسي الحاكم بيسر من غير الحاجة إلى حرب العشر سنوات العصيبة بكل ما تخللها من أحداث دامية تعجز الذاكرة عن استيعاب ما انطوت عليه من مآس.

هرب السوريون من جنتهم التي تحولت إلى جحيم من غير أن يكونوا سببا لذلك التحول. لقد انفتح الباب أمامهم وقيل لهم “اهربوا فالموت قادم” بل إن الكثير منهم رأى الموت ماثلا أمامه فقرر أن هروبه هو المعجزة التي ستبقيه حيا. وكان الأمر كذلك. سيُقال دائما إن الأوراق قد تم خلطها بحيث لم يكن النظام وحده مسؤولا عن الكارثة التي حلت بسوريا. ذلك كلام صحيح. لقد شهدت سوريا نزالات عالمية كانت جماعات الإسلام السياسي قد وقفت في واجهتها وتربحت منها كثيرا. ولكن تبين في ما بعد أن الشعب السوري هو الذي هُزم في كل تلك النزالات. فالنظام السياسي لا يزال قائما فيما تبخرت الجماعات والتنظيمات الإسلامية واكتفت الدول الراعية لها بالصمت. فهل وقعت الحرب من أجل أن يتشرد الشعب السوري ويكون لسوريا شعب شتات يُطعم الآخرين ويطببهم ويشيد مبانيهم ويعمر جسورهم ويعلم أولادهم ويخدم كبار السن من مرضاهم ومعاقيهم ويضفي على حياتهم نوعا مختلفا من التنويع؟

أليست سوريا في حاجة إلى أبنائها الذين كانت كلفة تعليمهم باهظة أم أنها في حاجة إلى حزب البعث الذي يمكن الاستغناء عنه من غير أن يحدث زلزال في الحياة السياسية؟ منذ اليوم الأول للحراك الشعبي المعارض كان واجبا على النظام أن يستوعب تلك المعادلة وبالأخص أنه قد ادعى منذ الأيام الأولى أنه ملم بتفاصيل المؤامرة الكونية التي تُحاك من أجل تدمير سوريا.

لقد دُمرت سوريا حين هُزم شعبها.

تلك حقيقة لم تشكل هاجسا جارحا بالنسبة إلى النظام. من حقه أن يخشى السقوط. غير أن أحدا من ذلك الشعب المشرد لم يفكر في إسقاطه. لا يشكل معارضوه الذين يسعون لإسقاطه نسبة كبيرة. كان الشعب يفكر في الإصلاح وهو أمر لم يكن صعبا. أما أن يتحول النظام إلى درع يصد السهام الموجهة إلى حزب البعث فذلك ما جعل الشعب يفقد الأمل ويدرك بمخيلة العاجز أن كل شيء في تلك البلاد صار ضده. لقد هزم النظام الشعب قبل أن تهزمه الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي اختارت أن تقاتل عن طريق الإرهاب. ولأن سوريا لم تعد سوريا، صارت بلادا محتلة من قبل جيوش وجماعات وأمم فلم يعد أمام السوريين سوى أن يلقوا نظرة الوداع الأخيرة عليها كما فعلها الأموي الأخير في الأندلس الذي كان سوري الأصل.

كل سوري مشرد لا بد أن يفكر في أبي عبدالله الصغير الذي خسر مُلكه في لحظة غفلة لم يكن سيدها. هناك اليوم شعوب مهزومة لم تشارك في حرب غير أنها هُزمت.

العرب