صنّف حوض المشرق الذي يقع في الميـاه العميقة شـرق البحر المتـوسط كأحـد أغنى مناطق العالم غير المكتشفة بالغاز الطبيعي؛ وعلى ضوء هذه الاكتشافات الضخمة يتوقع الخبراء أن ترتفع حدة التنافس الدولي على ثروات هذه المنطقة التي تجتاز مرحلة صعبة بسبب الأزمات الاقتصادية التي تمر بها بعض الدول، كاليونان، أو بسبب المتغيرات السياسية التي عاشتها، ناهيك عن مشاكلها العالقة، على غرار قبرص، المنقسمة بين جهة تركية وأخرى يونانية؛ هذا بالإضافة إلى الصراعات الإقليمية المحيطة بها؛ خصوصا في سوريا وأوكرانيا؛ وأيضا التوترات الحدودية التاريخية التي تتضاعف على خلفية هذه الاكتشافات على غرار الخلاف بين لبنان وإسرائيل حول حقول الغاز في منطقتهما الإقليمية.
ويقدر الخبراء مخزون الغاز في حوض شرق البحر المتوسط بحوالي 345 تريليون قدم. ويحتوي هذا الحوض على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية وسوائل الغازات. وتشمل هذه الاحتياطيات 223 تريليون قدم مكعبة من الغاز في حوض دلتا النيل، إضافة إلى 5.9 مليار برميل من الغازات السائلة، و1.7 مليار برميل من النفط. كما يحتوي الحوض الكبير على 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز في منطقة حوض المشرق، قبالة شواطئ قبرص ولبنان وسوريا، وعلى أكثر من 36 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي في مناطق بالقرب من إسرائيل، أما اليونان فتقدر المسوح الجيولوجية أن احتياطيات الغاز في بحر إيجه والبحر الأيوني وجنوب جزيرة كريت بـ 123.6 تريليون قدم مكعب.
وعلى رأي ف. ويليام إنغداهل، الصحفي الأميركي المختص في شؤون الطاقة والجيوسياسة، تشكل احتياطيات النفط والغاز المرصودة سببا هاما لفتنة جيو سياسية رهيبة في المنطقة. والاكتشافات، وفق ويليام إنغداهل، لطبقات من النفط والبترول ليست مهمة ولكنها واسعة النطاق فهي موجودة في جزء من البحر المتوسط لم يتم استثماره بشكل كبير في السابق؛ من شأن هذه الاكتشافات أن تمكن المنطقة من أن تصبح “خليجا جديدا“.
ويذهب المحلل الأميركي إلى اعتبار أن من تعقيدات هذا التطور الملموس الصراع في سوريا؛ وقد سبق وأن سبّب وجود الغاز في حوض المتوسط في اندلاع نزاع ما بين لبنان وقبرص وإسرائيل، التي عمدت كل واحدة منها إلى اتّخاذ خطوات لضمان حصّتها من الاحتياطي؛ فيما تقلق تحركات تركيا الدول الإقليمية، وخصوصا مصر وقبرص واليونان.
وكان الرئيس اليوناني بروكوبيس بافلوبولوس أكّد، في حوار سابق مع “العرب” (نُشر في 26/04/2015، العدد: 9899، ص(4)) أن اليونان وقبرص ومصر تمثل مراكز استقرار في المنطقة، لذلك يجب أن يظل كل منها قويا، ويتصدّى لدول المنطقة التي تسعى إلى وضع العراقيل وإثارة المشكلات، مثل تركيا.
وقال بافلوبولوس إن اليونان تبحث إمكانية أن تصبح نقطة لمرور شبكات الطاقة، بما يتضمنه ذلك من نقل الغاز إلى أوروبا، واستغلال النفط والغاز في قبرص، وهي مجالات ذات أولوية بالنسبة إلى بلاده، لكنها في نفس الوقت قد تزيد من حدة الصراع في المنطقة؛ حيث عبّرت واشنطن عن رفضها تطوير شبكة أنابيب تساعد على مرور الغاز الروسي عبر اليونان.
تعاون مصري قبرصي يوناني
تفرض التعقيدات المحيطة باكتشاف الغاز والنفط في شرق المتوسط والتطلعات الاستثمارية الواعدة على الدول المعنية بالأساس فرض نفسها كقوة قادرة على حماية مصالحها والاستفادة من الفرص المتاحة ووضع الاستراتيجيات المناسبة لاستغلالها؛ من هنا جاء قرار مصر بضرورة تمتين التعاون بينها وبين وقبرص واليونان؛ فمصر ورغم أن التقديرات الجيولوجية تقول إنها من بين الأكثر ثراء في المنطقة المتوسطية الشرقية بالاحتياطيات إلا أن فرصها تواجهها تهديدات كبرى، خصوصا من الجانب الاسرائيلي.
في هذا السياق، أكّد نائل الشافعي، الخبير الدولي في مجال الاتصالات أن الحقول المصرية تتعرض للنهب من جانب إسرائيل، وتبين ذلك منذ أعطال كابلات الاتصالات المصرية تحت سطح المياه عام 2008، وتعددت هذه الأعطال لذلك تمَّ البحث فيما يجري تحت سطح الماء ليتمَّ كشف هذه القضية الخطيرة.
وكانت شركة متخصصة في التنقيب عن البترول قامت بأعمال حفر في حقل الغاز لفياثان لحساب إسرائيل داخل الحدود المصرية. وجاء اكتشاف إسرائيل لهذا الحقل عام 2010، كما اكتشفت قبرص حقل آفروديت عام 2011 الملاصقين، وهما يقعان في المياه المصرية الاقتصادية، على بعد 190 كم شمال دمياط، بينما يفصلهما عن حيفا 235 كم، وهما في السفح الجنوبي لجبل أراتوستينس الغاطس.
وكانت مصر وقعت مع قبرص اتفاقية ترسيم المنطقة الاقتصادية في فبراير 2003، ورسمت مصر حدودها البحرية مع قبرص دون تحديد نقطة البداية من الشرق مع إسرائيل، والخط الافتراضي المرسوم بين حدود مصر البحرية والحدود القبرصية وُضع من قبل الجانب الإسرائيلي والقبرصي في غياب الجانب المصري بشكل خاطئ لإبعاد مصر عن جبل أراتوستينس في المنطقة الغنية بالغاز الطبيعي حتى يكون للجانب الإسرائيلي الحقّ في التنقيب بالجبل، رغم أن هذه المنطقة تابعة للحدود المصرية البحرية.
أمام هذا التهديد، توجب على مصر مراجعة استراتيجياتها الجيوسياسية وإعادة صياغة تكتّلاتها بما يضمن لها الاستفادة من مخزونها ومحاولة ترجمة هذه الاكتشافات إلى استثمارات واقعية تساعدها على النهوض باقتصادها المتعثّر؛ ويعتبر التكتل مع نيقوسيا وأثينا بالخصوص الخيار الأفضل والأكثر ملاءمة لها تاريخيا وسياسيا، بالإضافة إلى علاقتهما المتوتّرة بتركيا.
وتوضّحت بوادر هذا التعاون خلال قمة ثلاثية جمعت في القاهرة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس وزراء اليونان أنتونيس ساماراس ورئيس قبرص نيكوس أناستاسيادس؛ وانتهت باصدار إعلان القاهرة في 8 نوفمبر 2014 الذي تجلّى من خلاله الموقف المصري القبرصي اليوناني الرافض لتحركات تركيا.
وتضمن البيان مجموعة نقاط تخصّ التّعاون في مجال اكتشاف الغاز في شرق المتوسّط، أبرزها استئناف المفاوضات بين مصر وقبرص من جانب ومصر واليونان من جانب آخر، وترسيم الحدود البحريّة ودعوة تركيا إلى التوقّف عن كلّ أعمال المسح السيزمي الجاريّة في المناطق البحريّة لقبرص.
وقد ردّت تركيا على هذه النقطة، في 10 نوفمبر 2014 بتفويض القوّات البحريّة التركيّة بتطبيق قواعد الاشتباك الفوري، الّتي جرى تعديلها لمواجهة التوتّر المتزايد بين الدول الساحليّة بسبب مشاريع التّنقيب عن الغاز الطبيعيّ والنّفط في شرق البحر المتوسّط. ووصف هذا البيان بأنه تحذير مصري قبرصي يوناني شديد اللهجة موجه إلى تركيا لتوقف عمليات التنقيب عن الغاز بالمناطق البحريّة القبرصيّة، بما يدفع نحو تحريك المياه الراكدة في هذا الصراع الصامت حول الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط.
وعلق السفير جمال بيومي، المسؤول عن اتفاقيات الشراكة الأوروبية بوزارة التعاون الدولي المصرية، على هذا التعاون الثلاثي قائلا إن المميز في العلاقة مع كل من اليونان وقبرص أنها دول لها علاقة سياسية تقليدية وقوية جدا مع كل من مصر، فقد ساندناهم وساندونا من قبل، في العديد من القضايا السياسية خصوصا استقلال قبرص خلال فترة حكم ماكاريوس وجمال عبدالناصر، كما أن اليونان تستوعب جالية مصرية ضخمة تعمل في التجارة البحرية، وأيضا في صناعة المنسوجات، ومن مصلحة مصر أن تكون العلاقة في أفضل صورها.
من جهته، عبر كريستوس إياكوفو، مدير مركز بحوث قبرص في نيقوسيا، عن نظرة جيوستراتيجية أوسع حول الدبلوماسية الثلاثية الحالية، حيث قال لـ”العرب” إن الاتفاق المحتمل بين اليونان ومصر حول ترسيم المناطق الاقتصادية الخاصة بهما بعد أن تم ترسيمها بين مصر وقبرص عام 2003، يعد مناورة عالية المخاطر على تركيا، باعتبار أنه سيضع أنقرة تلقائيا داخل صندوق الأحداث الساخنة، حيث سيتم ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة بين قبرص واليونان ومصر، الأمر الذي امتنعت عنه تركيا، ما يرفع درجة القلق في أنقرة من تطور هذا التعاون. وشبه إياكوفو الأمر بلعبة القط والفأر، فمن ناحية تتابع تركيا التطورات وتترقب، ومن ناحية أخرى تقيس الدول الثلاث مصر وقبرص واليونان ردة فعل أنقرة.
التعقيدات المحيطة باكتشاف الغاز والنفط في شرق المتوسط هي التي تدفع نحو تمتين التعاون بين مصر وقبرص واليونان
كبح تحركات تركيا
إلى جانب الدفع بالعلاقات مع قبرص واليونان، سعت مصر إلى توثيق علاقاتها مع دول عضوة في الاتحاد الأوروبي، على غرار فرنسا وإيطاليا. وبدا ذلك جليا، على المستوى السياسي العسكري من خلال صفقات هامة عقدتها البحرية المصرية، من المتوقع أن تعزز من قوتها في شرق المتوسط، بدعم أميركي وأوروبي يهدف إلى كبح تحركات تركيا.
وعلى مستوى الاستثمارات، وقعت مصر اتفاقيات مع أربعة كيانات دولية للتنقيب عن الغاز خاصة بعد الاكتشافات الضخمة في حقل شروق بالتعاون مع شركة إيني إيطالية، التي أعلنت في أغسطس الماضي عن اكتشاف أحد أكبر حقول الغاز الطبيعيّ في العالم على سواحل مصر في البحر المتوسّط بإحتياطيات تقدّر بنحو 30 تريليون قدم مكعّب من الغاز الطبيعيّ، وهو ما يعادل نحو 5.5 مليارات برميل من النّفط.
في هذا السياق، قال محمد عبدالقادر، خبير الشؤون التركية، إن مصر تحاول تعظيم المنافع من خلال تعاونها المشترك مع عدد من دول إقليم شرق المتوسط الذي تصاعدت أهميته في الفترة الماضية، بسبب الحرب في سوريا من جانب، والتدخل العسكري لروسيا لحماية قاعدتها في طرطوس ومصالحها في المتوسط، وكذلك بسبب الاكتشافات الضخمة للغاز في تلك المنطقة من جانب آخر، بالإضافة إلى الحديث عن خليج غاز جديد في شرق البحر المتوسط وتأكيد أن الذي لم يتم اكتشافه في هذه المنطقة من حقول الغاز أكبر بكثير جدا مما اكتشف، وأن هناك مخزونا استراتيجيا ضخما جدا.
واستغرب عبدالقادر الاستياء التركي من التعاون بين مصر واليونان وقبرص، مشيرا إلى أن تركيا هي التي سعت للبقاء خارج مسار التفاعلات الاقتصادية الموجودة في ساحل شرق المتوسط، فضلا عن محاولتها تأزيم الوضع فيها باختلاق مشكلة مع قبرص في محاولة لمنعها من التنقيب عن الغاز، علاوة على محاولة التأثير أمنيا على الوضع السياسي والاقتصادي المصري نتيجة اختلاف وتباين الرؤى لطبيعة الأحداث في مصر فضلا عما واجهته في الفترة الأخيرة في سوريا. وأكد الخبير المصري أن القاهرة في وضع اقتصادي يحتم عليها اتباع الصيغ التعاونية لتعظيم المنافع وليس صيغ صراعية تحرم الجميع من الثروات الضخمة التي لا تكفي فقط سكان الإقليم في شرق المتوسط بل تتخطاهم للعديد من الدول الأخرى.
محمد وديع
ضحيفة العرب اللندنية