تسييس الطاقة: التحولات الراهنة للصراع الإقليمي على غاز المتوسط

تسييس الطاقة: التحولات الراهنة للصراع الإقليمي على غاز المتوسط

3790

كشف البيان الختامي لقمة نيقوسيا الثلاثية، التي عُقدت في 28 أبريل 2015، وجمعت كلا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ونظيره القبرصي نيكوس أنستاسيادس، ورئيس وزراء اليونان ألكسيس تسيبراس – عن وجود بوادر للتعاون والتنسيق بشأن الاكتشافات الضخمة من الغاز والنفط في شرق المتوسط، والإسراع في مسألة الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية من جانب، وضرورة التكاتف للتوصل إلى تسويةٍ عادلة للمشكلة القبرصية بهدف توحيد الجزيرة من جانب آخر. ولا ينفصل ذلك عن تصاعد صعود تحالف مصري يوناني مع قبرص بهدف استغلال غاز المتوسط في مواجهة تركيا في ظل تصاعد استغلال إسرائيل لاحتياطات الغاز في البحر المتوسط.

خريطة الغاز في شرق المتوسط

تتسم منطقة حوض شرق البحر المتوسط بقدر كبير الأهمية، لكونها تتضمن احتياطات استراتيجية ضخمة، وصلت -وفقًا لتقديرات المُسُوح الجيولوجية الأمريكية- إلى ما يقرب من 122 تريليون قدم مكعب من الغاز. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أبرز تلك الاكتشافات -وفقًا للترتيب والتسلسل الزمني- حقل “غزة مارين” الذي قامت شركة بريتش جاز British Gas التابعة لشركة بريتش بتروليوم باكتشافه عام 2000 على مسافة 36 كم من شواطئ قطاع غزة، حيث يُقدر إجمالي المخزون الاحتياطي للحقل ما يقرب من تريليون قدم مكعب من الغاز.

وفي يناير 2009، تم اكتشاف حقل تمارا الذي يُعد ثاني أكبر حقل غاز طبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، إذ بلغ إجمالي المخزون الاحتياطي -وفقًا للمسوح الجيولوجية- ما يقرب من 9,7 تريليونات قدم مكعب، ويقع الحقل على مسافة 90 كم من شواطئ شمال إسرائيل، وعلى مسافة 1650 مترًا تحت سطح البحر. وتم الرخيص لأربع شركات نفطية للقيام بعمليات البحث والتنقيب، وهي: نوبل إنرجي نسبة 36% من إجمالي العمليات، ودليليك جروب في المرتبة الثانية بنسبة 31,25%، ثم إسرامكو بنسبة 28,75%، وفي المرتبة الأخيرة بنسبة 4% فقط شركة دوور جاز.

كما شهد العام ذاته، وتحديدًا في ديسمبر 2009، اكتشاف حقل أفروديت على بعد 180 كم من الشاطئ الجنوبي الغربي لقبرص، وبعمق ما يقرب من 1700 متر تحت سطح البحر، إذ يقدر إجمالي المخزون الاحتياطي لأفروديت ما يقرب من 9 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي. ويمثل هذا الحقل بالنسبة لدول قبرص مصدرًا كافيًا للإيفاء بكافة الاحتياجات الغازية الداخلية دون الحاجة للاستيراد الخارجي، علمًا بأن عمليات التنقيب التي تتم في أفروديت من خلال شركتين فقط متخصصتين في هذا المجال، وهما: نوبل إنرجي الأمريكية بنسبة 70% من إجمالي العمليات، ثم تليها ديليك جروب بنسبة 30%.

ويُضاف لذلك، اكتشاف حقل داليت الذي يقع على مسافة 60 كم غرب مدينة الخضيرة، بإجمالي احتياطي منخفض نسبيًّا إذا ما قُورن بغيره من الحقول الواقعة في الحوض ذاته؛ حيث يتراوح الاحتياطي ما بين 0,35 و0,5 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما يجعله قليل الجدوى الاقتصادية، كما أنه يجعله أكثر عرضة لنفاد المخزون في وقت قريب للغاية. وعلى الرغم من المخزون القليل فتُشارك في عمليات استغلاله أربع شركات، هي: نوبل إنرجي بنسبة 36%، وديليك جروب بنسبة 31,25%، ثم في المرتبة الثالثة تأتي إسرامكو بنسبة 28,75%، وأخيرًا بنسبة 4% دور جاز.

وقد شهد عام 2012 اكتشافين رئيسيين؛ الأول حقل تانين الذي يُسمى باللغة العبرية “خزان التمساح” وهو سابع حقل قامت إسرائيل باكتشافه، ويقع على مسافة 120 كم من الساحل الإسرائيلي؛ حيث تم اكتشافه في فبراير عام 2012، وقدرت التقديراتُ الأولية احتواءه على احتياطي من الغاز يبلغ 1,2 تريليون قدم مكعب، وبالتالي يُعد ثالث أكبر حقل من حيث الاحتياطي بعد حقلي ليفياثان وتمار، وتقوم شركتان بعمليات الاستغلال والتنقيب، هما: نوبل إنرجي بنسبة 47,06%، ديليك جروب بنسبة 52,49%.

أما الثاني فهو حقل ليفياثان الذي يُعد أكبر حقل غاز طبيعي تم اكتشافه حتى الوقت الراهن في منطقة حوض شرق البحر المتوسط من حيث المخزون الاحتياطي المتوقع، والذي بلغ 17 تريليون قدم مكعب؛ حيث يقع الحقل على مسافة 135 كم من شواطئ شمال إسرائيل بالقرب من مدينة حيفا، وذلك بعمق 1600 متر تحت سطح البحر، ويُعهد بعمليات التنقيب والاستكشاف فيه إلى ثلاث شركات كبرى بنسب متفاوتة، يأتي في مقدمتها: ديليك جروب بنسبة 45,34%، ثم في المرتبة الثانية شركة نوبل إنرجي بنسبة 39,66%، وأخيرًا شركة راشيو أويل بنسبة 15% من إجمالي العمليات.

الأسس القانونية للصراع على غاز المتوسط

ظلت مسألة استغلال الموارد الطبيعية -خاصة المواد الهيدروكربونية- مسارًا للخلاف الدائم والمستمر في التفاعلات الدولية، لا سيما في منطقة حوض شرق البحر المتوسط؛ حيث تتعدد الأطر القانونية الحاكمة لتلك التفاعلات، والتي يُمكن حصرها فيما يلي:

1- اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، والتي تم التوقيع عليها في 10 ديسمبر 1982، ودخلت حيز النفاذ في 16 نوفمبر 1994 بعد أن صادق عليها 60 دولة. وتضمنت الاتفاقية تقسيم البحار إلى أربع مناطق رئيسية، وهي: البحر الإقليمي ويُحدد بحد أقصى 12 ميلا بحريًّا من خط الأساس، وللدولة سيادة كاملة عليها. ثم المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها بمائتي ميل بحري تقاس أيضًا من خط الأساس، ثم منطقة الجرف القاري، وأخيرًا أعالي البحار. فقد نصت الاتفاقية بشكل واضح على المبادئ العامة لاستغلال الموارد الطبيعية، سواء الحية أو غير الحية الموجودة في المياه أو في القاع بما في ذلك من موارد هيدروكربونية ونفطية. لكن تظل هذه الاتفاقية إطارية عامة، ولا تُلزم الدول إلا بالاتفاق على الالتزام بها.

2- اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية-القبرصية، والتي تم التوقع عليها في 17 فبراير 2013 بين الحكومتين المصرية والقبرصية، ودخلت حيز النفاذ في عام 2004، حيث عينت المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بالدولتين وفقًا لقاعدة خط المنتصف، والذي حددته الاتفاقية في البند الثاني من المادة في ثماني نقاط إحداثية جغرافية. غير أن الاتفاقية قد ألزمت في المادة الثالثة الطرفين عند الدخول في أي مشاورات مع طرف ثالث لتعيين الحدود البحرية إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه، وهو ما لم تلتزم به قبرص في اتفاقيتها لتعيين الحدود البحرية مع إسرائيل.

3- اتفاقية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية-القبرصية، حيث وقعت الحكومة اللبنانية والقبرصية في عام 2007 اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وتم الترسيم وفقًا لنقطتين مؤقتتين هما 1 جنوبا، والنقطة 6 شمالا، حيث ألزمت الاتفاقية في مادتها الثالثة أي طرف يدخل في تفاوض مع طرف آخر لترسيم الحدود البحرية في إحداثيات أي نقطة من 1 أو 6 الرجوع للطرف الآخر.

4- اتفاقية ترسيم الحدود البحرية القبرصية-الإسرائيلية، فقد قامت الحكومتان الإسرائيلية والقبرصية في 17 أكتوبر 2010 بالتوقيع على اتفاقية تحديد الحدود البحرية بينهما، لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بكل منهما، والتي تم تحديدها أيضًا وفقًا لقاعدة خط المنتصف، والذي يقع على مسافة 150 كم شمال غرب حيفا، والذي تم تحديده في البند الثاني من المادة الأولى في اثنتي عشرة نقطة إحداثية جغرافية.

دوافع ومحاور الصراع الإقليمي على الطاقة

تُعتبر إسرائيل اللاعب الأبرز والأكثر انخراطًا في صراعات وخلافات مع دول الجوار الجغرافي في حوض المتوسط بشأن الغاز؛ فقد دخلت إسرائيل في صراعات مع كلٍّ من فلسطين ولبنان وتركيا بشكل غير مباشر، وذلك لعدة أسباب رئيسية، وهي كالتالي:

1- إدراك إسرائيل أهمية مصادر الطاقة، لا سيما بعد الثورات العربية، ووقف إمدادات الغاز المصري الذي كان يُمثل موردًا هامًّا لمصادر الطاقة في إسرائيل. ولعل أبرز مؤشرات اهتمام إسرائيل بالغاز يتمثل في زيادة عدد الاستثمارات والشركات الإسرائيلية العاملة في عمليات التنقيب والاستكشاف عن الغاز، خاصة في شرق المتوسط، حيث تتقدمها كل من شركات ديليك جروب، إسرامكو، وراشيو أويل. وبرغم أنه لا يُمكن اعتبارها من الشركات الكبرى، فإنها تقوم بعمليات تبادل تقني وتكنولوجي مع الشركات الأمريكية الكبرى، لا سيما نوبل إنرجي، وإكسون موبيل، وغيرها.

2- توتر العلاقات السياسية الإسرائيلية مع بعض دول المنطقة بشأن العديد من القضايا، وفي مقدمتها فلسطين بسبب القضية الفلسطينية، ولبنان بخاصة مع الجنوب، وهو ما يجعل الصراع على الغاز أحد محاور الصراع مع تلك البلدان، لا سيما مع بداية دخول غالبية تلك البلدان في مرحلة حرجة من أزمات الطاقة.

3- التأثير السلبي للثورات العربية على تدفق الغاز لإسرائيل نتيجة تذبذب واضح في عمليات الإمداد حتى توقفت بشكل شبه تام مع انطلاق الثورات العربية، وما أسفرت عنه من حالة عدم استقرار، وفتح ملفات الفساد، وتدهور الأوضاع الأمنية وخاصة في مصر التي كانت تمثل أحد مصادر الإمداد الرئيسية للغاز، وهو ما دفع إسرائيل للبحث عن بدائل لمواجهة أي أخطار مستقبلية، ومن ثمّ تبني موقف أكثر تشددًا حيال صراعات الغاز مع دول الجوار الإقليمي.

أما على صعيد محاور الصراع على الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، فيأتي في مقدمتها: المحور الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو المحور الأقدم للصراع، والذي بدأت إرهاصاته بحلول عام 2000 عندما قامت شركة بريتش جاز British Gas التابعة لشركة بريتش بتروليوم باكتشاف حقل غزة مارين؛ حيث قامت السلطة الفلسطينية آنذاك بتوقيع اتفاق لتنمية والتنقيب في الحقل لمدة أربعة أعوام مع عدد من الشركات بنسب متفاوتة، وفي مقدمتها بريتش جاز بنسبة 60%، ثم 30% لشركة اتحاد المقاولين، أو ما يُعرف باسم ccc، ثم 10% لصندوق الاستثمار الفلسطيني ما يعرف باسم PIF. لكن، سرعان ما عرقلت إسرائيل الاتفاق نتيجة تصمميها على التحكم في مسارات تدفق الغاز من الحقل إلى العالم الخارجي، عبر الإصرار على ضرورة أن تصل إمدادات الحقل إلى عسقلان أولا لتلبية احتياجاتها من الغاز، ثم بعد ذلك إلى غزة، فضلا عن اشتراطها شراء الغاز بأسعار أقل من المعدلات العالمية، وهو ما تم رفضه من قبل الشركات. ومن ثمَّ فلم تستطع كل من السلطة الفلسطينية وشركة بريتش جاز القيام بعمليات التنقيب نتيجة الموقف الإسرائيلي المتعنت تجاه عمليات التنقيب حتى الآن. والجدير بالذكر أن إسرائيل أصبحت تستغل أزمة الطاقة التي يُعاني منها قطاع غزة بشكل مفرط للضغط على حماس بهدف وقف استهدافها لها خاصة بالصواريخ.

وعلى الصعيد اللبناني-الإسرائيلي الذي يُعد المحور الأكثر ضراوة، لكون الخلاف لم يتوقف فقط عند حد التصريحات العدائية المتبادلة، وإنما وصل إلى أروقة الأمم المتحدة، حيث سعت العديد من الأطراف الدولية إلى الوساطة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تكمن الإشكالية في عدم وجود اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فقد فشلت كافة المساعي التفاوضية بين الطرفين لترسيم الحدود نتيجة عدم وجود اتفاق حول معايير التقسيم. ولكن بمجرد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وقبرص في أكتوبر 2010، أبدت لبنان رفضها الاتفاقية، مدعيةً أنها قد تعدت على ما يقرب من 850 كم مربعًا من المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها.

وامتد الصراع على الغاز الطبيعي والمناطق الاقتصادية الخالية ليصل إلى تركيا من جانب، وقبرص وإسرائيل من جانب آخر. فعلى خلفية توقيع الاتفاقية الإسرائيلية القبرصية، رفضت تركيا الاتفاقية، واستدعت وزارةُ الخارجية التركية “جابي ليفي” السفير الإسرائيلي في أنقرة آنذاك، وأبلغته رفض تركيا الاتفاقية لكون الحكومة القبرصية لا يحق لها التوقيع على أي اتفاقية دولية، أو البدء في أي عمليات تنقيب طالما ظلت أزمة جزيرة قبرص قائمة، على اعتبار أن أي موارد سيتم استخراجها يحق للطرفين استغلالها. ومع الإصرار على بدء عمليات التنقيب، بدأ الصراع يأخذ مسارًا أكثر تشددًا بعد قيام تركيا بتوقيع اتفاقٍ مع شمال قبرص بموجبه قامت تركيا بالتنقيب عن الموارد النفطية بالقرب من السواحل المقابلة لشمال قبرص، ذلك في الوقت الذي هددت فيه تركيا بتصعيد النزاع في المنطقة حول مصادر الطاقة.

أما مصر، فعلى الرغم من تصاعد الجدل الداخلي بشأن سرقة إسرائيل وقبرص للغاز المصري، نتيجة الترسيم الخاطئ أو المعيب للحدود البحرية بين مصر وقبرص، والذي نتج عنه وجود حقل غاز أفروديت الذي اكتُشف بعد بتوقيع الاتفاقية بما يقرب من خمس سنوات داخل المنطقة الاقتصادية لقبرص، وترك إسرائيل حرة في استغلال الغاز المكتشف في حقل ليفياثان على الرغم من وجوده تاريخيًّا في السفح الجنوبي لجبل إراتوستين Eratosthenes Seamount البحري – فإن السلطات المصرية على مختلف توجهاتها آثرت عدم الصدام مع دول الجوار، وإنما الاتجاه نحو البحث عن صيغ للضغط على الأطراف في حوض البحر المتوسط للحصول على حقوقها عبر توقيع اتفاقيات للتعاون والتنسيق مع قبرص.

التوظيف السياسي للغاز في الصراعات الإقليمية

بات واضحًا أن الغاز قد أصبح يُمثل أحد أبرز وسائل التوظيف السياسي لتصفية الحسابات السياسية بين القوى الإقليمية، لا سيما مع وصول أنظمة سياسية إلى سدة الحكم ليست على وفاق مع نظيرتها في الدول الأخرى. وقد تجلى ذلك بوضوح في الصراع السياسي الذي نشب بين مصر وتركيا على خلفية سقوط نظام الإخوان بعد ثورة 30 يونيو من جانب، وبين قبرص وتركيا إثر الاعتراف التركي بشمال قبرص، وبين تركيا واليونان على خلفية الصراعات التاريخية بشأن القضية القبرصية وبحر إيجه، ويبدو أن الأطراف المعنية بها قد بدأت في القيام بعملية استغلال وتوظيف الغاز سياسيًّا كأداة من أدوات الضغط في بعض الأحيان، أو حتى الترغيب في أحايين أخرى. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أبرز مؤشرات عملية التوظيف السياسي للغاز، وهي كالتالي:

1- ربط قضية الغاز بالدعم السياسي غير المباشر، فمن المعروف أن العلاقات المصرية-التركية دخلت بعد 30 يونيو نفقًا مظلمًا، وهو الوضع ذاته في حالة العلاقات التركية-القبرصية. في الوقت الذي تسعى فيه مصر لإعادة ترسيم حدودها البحرية مع قبرص بهدف الاستفادة من الغاز المكتشف في حقل أفروديت. ويبدو أن السلطات المصرية بدأت في تبني استراتيجية تقديم دعم سياسي وتقارب مع خصوم تركيا في المنطقة، خاصة قبرص واليونان، عبر الزيارات المتبادلة، في مقابل إعادة النظر في موضوع تقاسم الموارد الطبيعية لا سيما الغاز معها. وقد تجلى بوضوح شديد في القمة الثلاثية التي عُقدت في القاهرة بين كل من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ورئيس وزراء اليونان أنتونيس ساماراس، ورئيس قبرص نيكوس أناستاسيادس، والتي أخرجت إعلان القاهرة في 8 نوفمبر 2014، والذي تضمن عدة أمور هامة بشأن الغاز في شرق المتوسط، أبرزها ما يلي:

أ- احترام القانون الدولي والأهداف والمبادئ التي يجسدها ميثاق الأمم المتحدة، وفيما يخص اكتشاف مصادر مهمة للطاقة التقليدية في شرق المتوسط.

ب- استئناف المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية.

ج- دعوة تركيا إلى التوقف عن جميع أعمال المسح السيزمي الجارية في المناطق البحرية لقبرص.

ولعل ما يؤكد حضور البعد السياسي بشكل واضح في قضية الغاز، رد الفعل التركي على تلك القمة ومخرجاتها، ممثلا في تصريحات الأدميرال بولنت أوغلو، قائد القوات البحرية التركية، مؤكدًا أن الحكومة التركية قد فوضت القوات البحرية بتطبيق قواعد الاشتباك الجديدة التي جرى تعديلها لمواجهة التوتر المتزايد بين الدول الساحلية بسبب مشروعات التنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط في شرق البحر المتوسط.

وقد استمر النهج ذاته في القمة الثلاثية الثانية التي عُقدت في 28 أبريل المنصرم بالعاصمة القبرصية نيقوسيا، والتي أسفرت عن إعلان نيقوسيا المكمل لإعلان القاهرة، والذي أكد بوضوح مسألة التعاون بشأن الموارد الغازية والنفطية في شرق المتوسط، وفي الفقرة التالية مباشرة عن ضرورة دعم جهود توحيد الجزيرة القبرصية، وهو ما يشير إلى وجود ربط واضح بين الأمرين.

2- استغلال قضية الغاز في الصراعات السياسية الداخلية، عقب 30 يونيو وبداية الصراع بين الإخوان والنظام الجديد: بدأ استغلال قضية الغاز لدعم شرعية النظام الجديد، وذلك بعد صدور عدة تقارير تضمنت وجود اتفاق ضمني بين الرئيس الأسبق محمد مرسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمد منطقة النفوذ التركي البحرية للاستيلاء على 70 كم من مناطق الامتياز المصرية، كما تضمنت التقارير رفض الرئيس السيسي لهذا الاتفاق، بحيث يصب ذلك في مصلحة النظام الحالي. وتعد تلك الحالة مثالا حيًّا على تطويع وتسييس قضية الغاز الطبيعي في الشرق المتوسط، ليس فقط على المستوى الخارجي وإنما أيضًا الداخلي لرفع وتدعيم شرعية النظم الحاكمة، خاصة مع بداية حدوث انحسار نسبي في شعبيتها في ظل عدم قدرتها على التعامل بكفاءة مع الأزمات الداخلية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

وإجمالا.. فرضت التحولات والتغيرات الجيوسياسية نفسها على الساحة، خاصة في منطقة حوض شرق البحر المتوسط، فلم يعد الفصل قائمًا بين الأبعاد الاقتصادية لاكتشافات الغاز من جانب، وبين الأبعاد السياسية سواء الداخلية أو الخارجية من جانب آخر، وهو ما جعل القضية أكثر تعقيدًا وتشابكًا، مما أفرز حزمةً من الصراعات الدولية والإقليمية. لكن يظل لتلك الاكتشافات جانب إيجابي يتمثل في إمكانية البحث عن مسارات للتعاون بهدف الحصول على أكبر قدر من الاستفادة من تلك الموارد، وهو ما بزغت إرهاصاته في القمتين الثلاثيتين بين كلٍّ من مصر وقبرص واليونان.

أحمد زكريا الباسوسي

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية