الجن النووي الإيراني يخرج من عنق الزجاجة

الجن النووي الإيراني يخرج من عنق الزجاجة

تنعقد اليوم، الاثنين، الجلسة الثامنة من المفاوضات النووية غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في فيينا، في سياق الجهود التي تبذلها مجموعة الخمسة زائد واحد لإحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015، على خلفية شكوك في تحقيق أي تقدم نوعي، وفي أعقاب تصريحات متشائمة من المسؤولين الأوروبيين بعد الجولة السابعة من أن المفاوضات “تقترب بسرعة من نهاية الطريق”، على الرغم من تحقيق بعض “التقدم التقني”.

وكان مستشار الامن القومي الأميركي، جايك ساليفان قد قال قبل أيام إن المفاوضات قد تستنزف “خلال أسابيع”، بينما حذّر كبير المفاوضين الأميركيين روبرت مالي أنه في حال انهيار المفاوضات، فإن العلاقات الأميركية-الإيرانية المتأزمة سوف تشهد “تصعيدا إضافيا”.

وتنعقد الجولة الثامنة من المفاوضات بعد اتصالات إسرائيلية-أميركية مكثفة حضت فيها إسرائيل إدارة الرئيس بايدن على اعتماد مواقف متصلبة أكثر، تشمل إلغاء أجهزة الطرد المركزي المتطورة والتخلص من كميات اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة والتي تخالف بنود اتفاق 2015، إضافة إلى تنازلات إيرانية بشأن دعمها للقوى والميليشيات التي تدعمها في المنطقة، وفي حال تعذر ذلك الانسحاب من المفاوضات.

وتزامنت هذه الاتصالات مع تهديدات إسرائيلية علنية بأن إسرائيل زادت من تدريباتها العسكرية لضرب المنشآت النووية الإيرانية، على الرغم من وجود شكوك جدية بقدرات إسرائيل على إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية النووية في إيران في أي وقت قريب.

ويفتقر سلاح الجو الإسرائيلي إلى ناقلات النفط الكبيرة الضرورية لتزويد القاذفات بالوقود في الجو خلال تحليقها في أجواء الدول العربية، كما يفتقر إلى القاذفات الاستراتيجية القادرة على حمل القنابل الثقيلة المصممة لاختراق التحصينات التي تحمي المنشآت الإيرانية المبنية تحت الأرض.

عندما استؤنفت المفاوضات في الشهر الماضي بعدما عطلتها إيران لحوالي خمسة أشهر بعد انتخاب الرئيس إبراهيم رئيسي، جاء الإيرانيون بمطالب جديدة ألغت بعض التقدم الذي أحرزته الجولات السابقة وطالبوا بإلغاء جميع العقوبات المفروضة على إيران، وليس فقط العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي، وغيرها من المطالب التي اعتبرتها واشنطن تعجيزية.

التلميح الأميركي بوجود خطة بديلة للمفاوضات، في حال انهيارها الكامل، يشمل نظريا على الأقل، الخيارات العقابية العسكرية، ولكن المسؤولين الأميركيين لا يتحدثون، حتى في الإيجازات الخلفية عن خيارات عسكرية واقعية أو قريبة ويشددون دائما على أن الخيار العسكري خيار أخير وبعيد.

ويرى بعض المحللين أن إسرائيل تدرك أن إدارة الرئيس بايدن لا تريد مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران قبل استنزاف الخيارات العقابية الأخرى من اقتصادية وتخريبية وإلكترونية، وإن كان هناك تقويم شامل في أوساط المحللين الاستراتيجيين يرى أن خيارات عمليات التخريب الإلكتروني وعمليات اغتيال العلماء الإيرانيين، وهو ما تقوم به إسرائيل منذ سنوات تبقى محدودة في قدرتها على تعطيل البرنامج النووي الإيراني لوقت طويل.

وكانت إسرائيل خلال وجود بنيامين نتانياهو في رئاسة الحكومة اقتربت من قصف المنشآت النووية الإيرانية في 2012، إلا أنها عدلت عن ذلك لأكثر من سبب سياسي وعسكري، من بينها أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك قد أوضحت أنها لن تشارك في أي عمل عسكري مشترك مع إسرائيل ضد إيران، ولأن قدرات إسرائيل آنذاك لن تؤدي إلى تدمير المنشآت الإيرانية وتعطيلها لسنوات طويلة.

ومن الصعب تصور استمرار المفاوضات في فيينا لأكثر من أسابيع أو أشهر قليلة على الأكثر، لأن إدارة بايدن تدرك أن الرزنامة الانتخابية تعني أن كل إجراء داخلي أو خارجي بعد أشهر سوف يتم النظر إليه عبر منظور الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر المقبل، مما يعني أن الجمهوريين سوف ينتقدون مفاوضات فيينا – إذا استمرت تراوح في مكانها- على أنها تعكس ضعف إدارة بايدن في إرغام طهران على العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي، أو تطويره.

لكن انهيار المفاوضات لن يعني بالضرورة اعتماد الخيار العسكري، وخاصة من قبل إدارة أميركية تريد مواصلة تخفيض حضورها العسكري في المنطقة وتفادي التورط في حرب أخرى مع دولة اخطبوطها العسكري يشمل أكثر من دولة عربية. وهذا يعني ان الخيارات العقابية سوف تبقى – في المستقبل المنظور – اقتصادية  وتخريبية.

الرئيس بايدن أرتأى الإبقاء على العقوبات الاقتصادية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على إيران في سياق ما سمي “بالضغوط القصوى” لمعاقبة إيران وإرغامها على العودة إلى المفاوضات لقبول شروط أميركية أكثر تشددا من تلك التي فرضها اتفاق 2015.

لكن العقوبات الأميركية التي ألحقت بالاقتصاد الإيراني أضرارا جسيمة لم ترغم النظام الحاكم على تعديل مواقفه أو تغيير سياساته. ومنذ 2019، أي بعد انسحاب إدارة ترامب الأحادي الجانب من الاتفاق النووي، بدأت ايران بانتهاك معظم القيود التي فرضها عليها الاتفاق وخاصة في مجال تطوير أجهزة طرد مركزي أكثر حداثة وقدرة، وتخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة، مما يعني اقترابها أكثر من اليورانيوم المطلوب لتصنيع القنبلة النووية، أي تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 بالمئة.

ويرى بعض المحللين أن إيران تريد زيادة خبراتها النووية والصاروخية، أي أن تملك القدرة خلال فترة قصيرة لا تزيد عن أسابيع عن تجميع رأس حربي نووي ووضعه في صاروخ موجه، ولكنها لن تخترق عتبة النادي النووي في أي وقت قريب لكي لا تستفز واشنطن، أو تدفعها إلى طريق اللاعودة عن الخيار العسكري.

وعلى الصعيد الإقليمي واصلت إيران سياساتها التخريبية في العراق واليمن وسوريا ولبنان، على الرغم من عقوبات ترامب “القصوى” كما يتبين من هجمات الميليشيات العراقية التي تشرف عليها إيران ضد القوات الأميركية في العراق، والتصعيد العسكري الكبير للهجمات الصاروخية العشوائية التي تشنها القوات الحوثية المدعومة من طهران، من اليمن ضد العمق السعودي.

تردد الولايات المتحدة في الدخول في مواجهة عسكرية مع اإران – قد لا تبقى محصورة بالأراضي أو الأجواء والمياه الإيرانية- وكذلك تردد إسرائيل، إضافة إلى عدم امتلاكها للقدرات العسكرية الضرورية لضربة مؤلمة للبرنامج النووي الإيراني، يعني زيادة فرص طهران في تطوير برنامجها النووي، وفي الوقت ذاته الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية، كما يتبين من استمرار شراء الصين للنفط الإيراني – بكميات ضخمة تصل إلى حوالي مليون برميل في اليوم –  في انتهاك واضح للعقوبات الأميركية التي يفترض أن تسري أيضا على الأطراف التي تشتري النفط الإيراني.

العقوبات الأميركية – والغربية عموما – لم تمنع كوريا الشمالية أو باكستان من التحول إلى قوى نووية، وحتى بناء ترسانة نووية عسكرية، على الرغم من عزلة كوريا الشمالية وفقر باكستان. الإيرانيون يدعون أن برنامجهم النووي هو لأغراض سلمية محض، ولكن البنية التحتية النووية التي بنوها – لا بل طوروها بشكل أفضل حتى بعض الضربات التخريبية التي تعرضت لها في السنوات الماضية – مصممة  لتطوير الأسلحة النووية، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة أن إيران ستطور هذه الترسانة في المستقبل القريب، أم أنها تريد أن تمتلك القدرات البشرية والعلمية والتقنية لهذا الاحتمال في المستقبل.

هذا يعني، أنه حتى ولو قامت إسرائيل بمفردها، أو حتى بالتنسيق مع إدارة بايدن، أو أي إدارة أميركية أخرى بقصف المنشآت النووية الإيرانية فإن ذلك سيؤخر في أحسن الحالات البرنامج النووي، ولكنه لن يمنع إيران في المستقبل من تطوير القنبلة النووية إذا أصرت على ذلك. التهديدات الأميركية القديمة لكوريا الشمالية لم تمنعها من تصنيع القنابل النووية وتطوير الصواريخ القادرة على نقلها لمسافات بعيدة، كما لم تمنع العقوبات والاحتجاجات الأميركية على البرنامج النووي الباكستاني باكستان من تطوير ترسانة نووية عسكرية.

المجتمع الدولي، والغربي عموما لم يعترض بجدية على الترسانة النووية الإسرائيلية، كما لم يعترض على تدمير إسرائيل للمنشآت النووية العراقية والسورية، التي بنيت فوق الأرض وكأنها تدعو سلاح الجو الإسرائيلي لقصفها.

الجنّ النووي الإيراني يخرج أمامنا من عنق الزجاجة، والإيرانيون يعتقدون – وربما كانوا على حق – أن العالم، (بمن في ذلك جيران إيران من دول عربية وغير عربية) سوف “يتعايش” مرغما مع إيران نووية، كما تعايش مع أنظمة “مارقة” ومتسلطة أخرى بعد ان اخترقت عتبة العصر النووي وكدست قنابلها وصواريخها لحمايتها من أي عقاب خارجي، لكي تواصل سياساتها العدائية في الداخل والخارج.

هشام ملحم

الحرة