شرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطاب طويل الاثنين الماضي، أن أوكرانيا ليست سوى جزء تاريخي وجغرافي من روسيا.
قدّم الخطاب أيضا عناصر «مظلومية» تاريخية روسيّة منها نسبة تشكيل أوكرانيا نفسها إلى روسيا، وانفصال الجمهوريات السوفييتية السابقة بعد انهيار الاتحاد، كما قدّم تصوّره لسلسلة من الأحداث يحمّل فيها النخب السياسية الأوكرانية، بعد ثورة 2014 الشعبية مسؤولية تنكّرها لكرم روسيا المستمر، و«انهيار الاقتصاد» والفساد، وارتكاب فظائع، وكبت حرية التعبير، والعمالة للأجانب الغربيين، ودعم «التنظيمات الإسلامية المتطرفة» والتخطيط لحيازة سلاح نووي.
يعيد بوتين تركيب الأحداث التاريخية بقصد «تصحيح» الماضي، والانتقام لمظلومية، ويرسم وقائع شديدة التناقض والتنافر بطريقة الأبيض والأسود بحيث يحقّ للقومية الروسيّة استعادة ما كان لها، فيما يعتبر الطموح القومي الأوكراني «نازية» وهو ما لخّصه كاريكاتور أوكراني بإظهار الزعيم الألماني أدولف هتلر وهو يرحّب ببوتين.
على الطريقة التي تمتّ إلى أدبيات الدعاية السياسية «البروباغاندا» الموروثة من القرن الماضي، قام الإعلام الرسمي الروسيّ بالتعامل مع الحدث الأوكراني، بداية، مع قرار نقل سكان المناطق الشرقيّة الأوكرانية باتجاه روسيا، والحديث عن «إبادة جماعية» تقوم بها أوكرانيا للروس، وإظهار أن ما يحصل هناك هو اعتداء تقوم به أوكرانيا وليس تحشيدا عسكريا روسيا يتجهز للانقضاض على البلد المجاور.
في خطابه الأخير، أمس الخميس، الذي أعلن بوتين فيه الحرب على أوكرانيا مسميا ذلك «عملية عسكرية خاصة» لنزع سلاح الدولة الأوكرانية، والقضاء على «النازيين» ظهر بوتين على الطاولة نفسها وبالبدلة نفسها التي ألقى فيها خطاب يوم الاثنين، كما أن تدقيق الخبراء الالكترونيين في شرائط الفيديو التي نشرها الإعلام الروسي لطلب القادة الانفصاليين الدعم من روسيا الأربعاء 23 شباط/فبراير، أظهر أن التواقيع كانت من اليوم الذي سبقه.
من المثير أيضا أن الجهة التي كشفت بدء الحرب كان محرّك البحث العملاق «غوغل» الذي أظهر تحرّكات أرتال عسكرية بخطوط حمر تشير إلى «تكدس مروري» وقد تزايدت هذه الخطوط الحمر مع تزايد قوافل النازحين واللاجئين الهاربين من كييف إلى الغرب، أو المتجهين إلى بولندا ودول الجوار.
ما لبثت المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي أن بدأت، من كل مكان، بنقل وقائع الحرب لحظة بلحظة، فرأى المتابعون طفلا في فندق في مدينة خاركيف يعزف البيانو فيما تدخل الدبابات الروسية إلى المدينة، وأظهر شريط فيديو لأحد حراس الحدود الأوكرانيين عربات عسكريات روسية تدخل البلاد من شبه جزيرة القرم، وتابع آخرون نشر فيديوهات تظهر دخانا متطايرا وحرائق بعد وقوع الهجمات مباشرة، وبدأ إعلاميون روس ونشطاء بوضع إشارة مربع أسود للتدليل على رفضهم للحرب.
رغم محاولة السلطات الروسية السيطرة على الواقع الافتراضي عبر حرب سيبرانية مرافقة للغزو العسكري التقليدي لأوكرانيا، فإن أجهزة التصوير في الهواتف المحمولة، والمواقع الالكترونية، والأقمار الصناعية، والأشخاص العاديين الذين يشاركون من كل مكان عمليا في نقل الأحداث والتعليق عليها، يخلق مفارقة كبيرة بين هجوم يبدو استكمالا للحربين العالميتين في القرن الماضي، وبين مشاركة الملايين في تلك الحرب من خلال الوسائل الحديثة التي قدمها الانترنت وتقنيات الهاتف المحمول.
الأمر المتوقع هو أن الحرب ستجر معها الكثير من الخراب والآلام ونزف الدماء، لكن نتائج اصطدام أوهام الماضي بوقائع الحاضر سيكون من الصعب توقعها.
القدس العربي