في وسط سنغافورة، ثمة تل صغير به باب مغلق من جانب واحد. سوف يفتحه لك مرشد ويأخذك إلى ظلام دهليز تحت الأرض يؤدي في النهاية إلى مجموعة خافتة الإضاءة من ست وعشرين غرفة تحت الأرض. كان هذا ذات مرة المخبأ الذي شكل مركز القيادة والسيطرة الذي نظم منه الجنرالات البريطانيون الدفاع عن هذه المستعمرة الاستراتيجية في الأسابيع التي تلت هجوم “بيرل هاربور”.
توقع القادة في هذا المخبأ هجوما بحريا يشنه اليابانيون من عُرض البحر المفتوح، ولكن تبين أنهم فهموا الأمور خطأ. جاءت القوات اليابانية إلى شبه جزيرة الملايو عبر طرق الغابة التي اعتقد البريطانيون أنها غير صالحة للسير. وبانتصار، دعا القائد الياباني البريطانيين المذعورين إلى الاستسلام من دون قيد أو شرط. ووجه تشرشل أوامره إلى اللفتنانت جنرال آرثر بيرسيفال بالقتال حتى آخر رجل، لكن بيرسيفال تحدى أوامره، وفي 15 شباط (فبراير) 1942، بالكاد بعد أسبوع منذ أقام اليابانيون أول رأس جسر لهم في الجزيرة، استسلم.
أسر اليابانون حوالي 80.000 جندي بريطاني وأسترالي وهندي. وكان هذا في ذلك الوقت، وما يزال حتى يومنا هذا، أكبر استسلام في تاريخ الجيش البريطاني. وما تزال المائدة المستديرة التي جلس إليها بيرسيفال وزملاؤه وهم يناقشون الوضع اليائس لمحنتهم ويتعذبون بشأن ما يجب القيام به موجودة في المخبأ حتى اليوم، إلى جانب تماثيل شمعية لأفراد الفريق البريطاني ذوي الوجوه الكئيبة.
عندما تتأمل هذا المشهد المثير للشفقة، فإن أي شيء لا يمكن أن يقلل من الإذلال الذي ينطوي عليه. ولكن هل كان ذلك مدعاة للعار؟ ثمة فرق بين الذل والعار. ويتوقف كل شيء على السياق والنية. لو أن أولئك الضباط كانوا يحاولون فقط إنقاذ جلودهم، على الرغم من علمهم بأنهم سيوضعون في معسكرات أسرى الحرب، لكان بيرسيفال وزملاؤه جديرين بالإدانة حقاً بقدر ما سيكونون جبناء. ولكن، كان لديهم هدف مشرف. باستسلامه أنقذ بيرسيفال نحو مليون مدني كانوا يعيشون على الجزيرة من الوقوع في تقاطع نيران المقاومة البريطانية والقصف الياباني الهائل والضربات المدفعية، والتي كان من الممكن أن تسبب دمارا واسعا وسقوط آلاف القتلى.
ظل درس سنغافورة حاضراً بوضوح في ذاكرتي منذ أن رأيت ذلك الملجأ البريطاني المحصن البائس في القبو قبل خمس سنوات. وعاد إلى ذهني بإلحاح أكبر في الأيام القليلة الماضية بينما أشاهد صور مئات الآلاف من النساء والأطفال الأوكرانيين الذين يفرون غربا خارجين من بلادهم. كيف يمكن تجنيبهم الرعب واليأس اللذين يصنعهما اضطرارهم إلى مغادرة منازلهم المريحة، واستبدال الحياة المتحضرة بالبؤس وعدم اليقين اللذين يلازمان اللاجئ؟
وثمة ما هو أسوأ قادم على الطريق. كلما طالت مدة تمكن الجيش الأوكراني والميليشيات المرتبطة به والمتطوعين من المواطنين من صد القوات الروسية الغازية، زادت احتمالية أن يأمر بوتين جنرالاته بالتخلي عن أي إحجام متبق عن زيادة الخسائر في أرواح المدنيين. سيتم إطلاق العنان للدبابات والمدفعية والطائرات الروسية التي نفد صبرها من أجل الاستيلاء على الأرض في أسرع وقت ممكن، حتى لو كان ذلك يعني تدمير الشقق السكنية التي تعيش فيها مئات العائلات. وقد بدأ هذا يحدث بالفعل. فقد تم تدمير العديد من المدن الصغيرة، وكذلك أجزاء من ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، خاركيف.
وستكون كييف والمدن الأخرى هي التالية. وهي في خطر أن تشبه في القريب أرض حمص السورية القاحلة وشرق حلب حيث تحولت مساحات شاسعة من أماكن السكن إلى ركام. وحيث العلامات الوحيدة للحياة هي عدو الفئران وأنين الكلاب التي لم يعد لها أصحاب. ولم يعد هناك شيء يمكن لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين العودة إليه.
بنفس الطريقة، ماذا سيبقى من الحياة الحضرية الأوكرانية عندما يتوقف القتال الحالي يوما ما؟ لا شك في أن القصص عن الشجاعة الأوكرانية والتحدي الذي يُظهره الأفراد الشجعان ملهمة. وتثير صور الأشخاص غير المدربين وهم يتعلمون بفخر كيفية استخدام البنادق الآلية الإعجاب. ويثير جهود ربات البيوت والمراهقات والمراهقون المتحمسون لصناعة زجاجات المولوتوف مشاعر التعاطف والدعم والتضامن. كما قام الرئيس فولوديمير زيلينسكي بعمل رائع في حشد شعبه. وكانت مقاومة الغزاة الروس عنيدة وأنجح بكثير مما توقعه بوتين وجنرالاته -حتى أن الروس أُجبروا في بعض الأماكن على التراجع. وتبدو المعنويات في الجانب الأوكراني أعلى بكثير مما هي عليه بين القوات الروسية بفرقها الكبيرة من المجندين المرتبكين والخائفين.
لكن الحقيقة القاسية تظل أن القوات الأوكرانية لا تضاهي أعداد الغزاة الروس وقوتهم النارية وقسوتهم. ربما يستطيع الأوكرانيون تأخيرهم ولكن لا يمكنهم هزيمتهم. وسوف يستغرق انتصار جيش بوتين وسلاحه الجوي وقتا أطول بكثير مما خطط له الكرملين في البداية، لكن تحقيق ذلك أمر لا مفر منه. فهل يستحق احتمال المقاومة لبضعة أسابيع إضافية حقًا الدمار الهائل والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي لا بد أن تقع إلى أن تستسلم أوكرانيا في النهاية؟
يواجه الأوكرانيون الآن خياراً قاتماً. لا يوجد خيار مستساغ. إما أن يستمروا في المسار العسكري الذي يترتب عليه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، أو يستخدم زيلينسكي وزملاؤه المحادثات التي تجري مع الروس للدفع من أجل وقف إطلاق النار على مستوى البلاد والموافقة على المطالب الروسية بحياد أوكرانيا ونزع سلاحها.
سيكون الروس قد ربحوا المعركة الفورية، لكنهم سيجدون صعوبة في السيطرة على البلاد أو تحويلها إلى نوع الدولة البوليسية التي أصبحت عليها روسيا تحت حكم بوتين. وسواء ظل زيلينسكي في منصبه أو استقال بشرف وسمح للروس بتعيين حكومة دمية من اختيارهم، فإن المقاومة السياسية التي سيخوضها الأوكرانيون على كل المستويات الإدارية ستقوض الاحتلال الروسي وتضعفه تدريجياً. وفي غضون ذلك، سيتمكن اللاجئون الأوكرانيون من العودة إلى شيء يقترب من الحياة الطبيعية لما قبل الحرب. وستكون هذه نتيجة أفضل من الاستمرار في خوض حرب شاقة مكلفة ثم الاستسلام لاحقا.
إن إنهاء المقاومة العلنية اليوم سيكون بالتأكيد مهينا. لكنه لن يكون مصدر عار لأن حماية الحياة هي هدفه. إن إنقاذ الناس أهم من إنقاذ الدولة.
القدس العربي