عندما استضاف رئيس الصين نظيره الروسي قبل شهر ونصف، حاولا استعراض الوحدة والتضامن أمام العالم. وعبر فلاديمير بوتين عن معارضته لاستقلال تايوان، في الوقت الذي اعترف فيه شي جي بينغ “بحاجة” روسيا إلى وضع جنود على حدود أوكرانيا، وعارض انضمام الدولة لحلف الناتو. ونشر النظامان بياناً ودياً مشتركاً جاء فيه أن “الصداقة بين الدولتين لا حدود لها”، و”لا حدود محظورة على التعاون”.
الدفء والود الذي أغدقه الدكتاتوران لبعضهما يقفان الآن في الاختبار. مظاهرة الاقتران وقعت قبل طلقات الافتتاح لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين وقبل غزو أوكرانيا. صحيح أن الحكومة الصينية لم تدن روسيا، ولكنها لم تتخذ خطوات واضحة في صالح الكرملين. تتابع الولايات المتحدة بحذر كل خطوة وتصريح يصدر من بكين، حتى في ذروة القتال في أوكرانيا. مؤخراً، يبدو أنهم يرسلون رسائل جوابية، بأن لا تسقطوا في البئر المنعزلة التي حفرها بوتين لنفسه.
تمر السياسة الخارجية الأمريكية الآن بتغييرات مهمة، لكنها ليست جوهرية. التهديد الاستراتيجي الرئيسي الذي يشغل بايدن على المدى الطويل كان وما زال الصين. ليس بالصدفة أنه وتزامناً مع الحرب الدائرة في أوروبا أن تحضر شخصيات رفيعة في جهاز المخابرات، الأسبوع الماضي، إلى الكونغرس وتكرس استعراضاً واسعاً حول بكين. “تعتبر الصين الأفضلية العليا لجهاز المخابرات”، قالت رئيسة المخابرات القومية، افيريل هاينز، في شهادة أمام جهاز المخابرات في مجلس النواب.
رئيس وكالة المخابرات المركزية الـ سي.آي.ايه، وليام برانس، جاء هو أيضاً إلى الكابيتول ليقدم شهادة أمام مجلس الشيوخ، واستغل هذه المنصة للتحدث عن الصين. “من المهم أن نذكر بأن القيادة الصينية غارقة في شراكة مع روسيا، ولا أتوقع أن يتغير ذلك في المستقبل المنظور”، قدر برانس وأبرز نقطة مهمة عندما قال: “أؤمن بأن القيادة الصينية، خاصة الرئيس شي، تشعر بعدم الارتياح إزاء الوضع في أوروبا، جزئياً لأن مخابراتهم لا تعرف ما الذي سيحدث”.
وأكد برانس أن الرئيس شي قلق جداً من “الضرر الموجود في الصورة” الذي سيلحق بالصين بسبب ارتباطها بالعدوان الروسي، لذلك، هو لا يسارع إلى العمل من أجل بوتين. تنتظر حكومة الصين كيف ستنتهي الحرب، ويرقبون بقلق تغيير أنظمة العالم. ليس بسبب عزل روسيا اقتصادياً فحسب، بل وبسبب التأثير على الاقتصاد الصيني الذي بدأ الآن.
“أعتقد أن الرئيس الصيني قلق من الطريقة التي نجح فيها الرئيس بوتين في جمع أمريكا وأوروبا”، قال برانس. “شي يرى كيف يعزز تحالفات عابرة للأطلسي بطرق لم يتخيلها قبل غزو أوكرانيا”. القيادة الصينية لا ترى في أوروبا سوى سوق لبيع البضائع. وترى في دول أوروبا لاعبات قد تقيم معها علاقات مستقلة في محاولة لدق إسفين بين أمريكا وحلفائها. وأوضح بوتين أن هذا لن يحدث”.
بتريشيا كيم، الخبيرة في شؤون شرق آسيا، أشارت في التقرير الأخير لمعهد الأبحاث “بروكينغز” في واشنطن، بأن الحرب ربما قوضت العلاقات الأمنية بين بكين وموسكو على المدى الطويل. وأشارت إلى بيان وزارة الخارجية الصيني الذي صدر في يوم الغزو 24 شباط، الذي كرر رسالة الكرملن القائلة بأن الأمر يتعلق بـ “عملية عسكرية خاصة” ومحدودة. في هذا البيان، أشارت الصين إلى أنه “لن تكون هناك هجمات داخل المدن”. وقدرت كيم أن “الصين صدقت روسيا”.
إلى جانب التفاؤل الحذر الذي أظهره برانس أمام مجلس الشيوخ، كانت هاينز أكثر تشاؤماً بقليل أمام مجلس النواب. “صحيح أن الدولتين تواصلان التقارب حتى بعد الغزو، وصحيح أننا نرى هذا في سلسلة قطاعات الاقتصاد والسياسة والأمن، ومن المرجح استمراره، لكني أعتقد أن هناك حدوداً لهذه الشراكة، لكن يشوبها قلق ما”، قالت.
عندما ينشر اثنان من أجهزة المخابرات الأمريكية تصريحات علنية حول الموضوع الصيني، بالتحديد الآن، يمكن التقدير بأن العنوان المستهدف لهذه الرسائل موجود في الشرق. رئيسة المخابرات القومية، هاينز، هي عضوة في “الكابنت” والمسؤولة عن كل جميع وكالات المخابرات. الوظيفة نفسها وجدت كجزء من إخفاقات المخابرات التي سبقت هجوم 11 أيلول 2001. وبعد شهادة هاينز وبرانس، نشر مكتب الرئيس الصيني بياناً يدعو إلى “أكبر قدر من الانضباط” في أوكرانيا.
رد كوريا الشمالية
في الوقت الذي تشكل فيه الصين تهديداً مركزياً على المدى البعيد، وروسيا على المدى القريب، فإن ديكتاتورية نووية أخرى عادت إلى العناوين. فقد كشفت الإدارة الأمريكية في نهاية الأسبوع بأن كوريا الشمالية أجرت تجربتين لمكونين سيستخدمان كصواريخ بالستية عابرة للقارات. بيان الولايات المتحدة حدد بأن هاتين التجربتين اللتين أجريتا بعد الغزو الروسي، تشكلان “تصعيداً خطيراً” لبرنامج السلاح الكوري. مصدر أمريكي رفيع قال لـ “واشنطن بوست” في نهاية الأسبوع بأن “الإطلاق هو خرق فظ لعدد كبير من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن. هي تزيد التوتر وقد تضعضع الاستقرار الأمني في المنطقة”. قدرت واشنطن أنها تجارب تبين أسلوب كيم جونغ اون “تذكيراً بعدم تجاهله”.
رغم أن التهديدات والتجارب التي تقوم بها بيونغ يانغ ليست ظاهرة جديدة، إلا أن اختيار إدارة بايدن لنشرها يثير الاهتمام. كانت التجارب رسالة للبيت الأبيض، وهذا النشر العلني هو رسالة راجعة من الولايات المتحدة. وأضافت وزارة الخارجية الأمريكية، في البيان، بأنها ستكون مسرورة من الالتقاء مع ممثلين من بيونغ يانغ بدون شروط مسبقة. وأعلنت الوزارة أيضاً بأن بايدن سيكون مسروراً من التقائه مع كيم “في اللحظة التي سيكون فيها اتفاق جدي على الطاولة”. لم ترد بيونغ يانغ بعد، لكن يبدو أن الرسالة لم توجه فقط لرئيس كوريا الشمالية.
ففي اليوم الذي طرحت فيه شرطاً أساسياً لإجراء محادثات مع دكتاتورية نووية، أعلنت الإدارة الأمريكية تجميد المحادثات مع إيران. قرار أمريكا والدول العظمى الأوروبية عدم التساوق مع مطالب روسيا لإجراء مفاوضات هو جزء من جهود كبيرة لرسم قواعد لعب جديدة. تعهد بايدن في حملته الانتخابية بأن يدفع بالاتفاق مع إيران بشروط.
جاء بايدن إلى البيت الأبيض مع استراتيجية واضحة لبلورة تحالف بين الدول الديمقراطية برئاسة الولايات المتحدة أمام أي دول استبدادية، وعلى رأسها الصين. غزو أوكرانيا سرع بشكل دراماتيكي الانعطاف الجيوسياسي الذي يريد بايدن القيام بها. صور بوتين نفسه على أنه الفتى الملصق للأنظمة الديكتاتورية، حتى لو كانت الصين تمثل تهديداً أكبر. إعلان الولايات المتحدة عن تجربة كوريا الشمالية وتجميد المفاوضات مع إيران هما أيضاً رسالة لما هو مسموح وما هو ممنوع في النظام العالمي الآخذ في التبلور.
الدول الغربية موحدة مثلما لم تكن هكذا منذ ثلاثة عقود. ولكن ما دامت الحرب جارية في أوروبا فإن النظام العالمي ما زال مائعاً وآخذاً في التبلور والتشكل. مع ذلك، ظهر في الأسبوع الماضي وكأنه جرى على خارطة تهديدات الولايات المتحدة تحديث بروح الساعة. بوتين ذكر العالم بأنه من الجدير الخوف من دكتاتور غير متوقع، مسلح بالذرة. وكيم قدم تذكيراً بأنه ما زال في النادي. وتحذيرات إسرائيل للغرب بشأن إيران ربما تجد إصغاء أكثر.
بقلم: نتنئيل شلوموبتس
القدس العربي