تعتبر المنطقة الممتدة من أوكرانيا إلى المغرب العربي، مروراً بأفغانستان والمشرق العربي، قوس أزمات جديداً بالنسبة لحلف الأطلسي (الناتو). وهي منطقة تشتمل على بؤر توتر محلية، ذات أبعاد إقليمية ودولية، ويقع بعضها في التخوم المباشرة لدول أعضاء في الحلف ما يعطيها ميزة إستراتيجية، ومنها خصوصاً أوكرانيا وأفغانستان وسورية. وإذا كان لبؤر الصراع المختلفة هذه، والموزعة على منطقة شاسعة، محددات خاصة بها، فإنها تشترك، فيما بينها، في طرحها إشكالية التدخل، بغض النظر عن هوية المتدخل. ففي الحالات الأفغانية والعراقية والليبية، القوى الغربية هي المتدخلة و”الناتو” تحديداً في الحالتين الأولى والثانية. أما في الحالة الأوكرانية، فالتدخل روسي، ولو بشكل غير مباشر (عبر الجزء الشرقي من أوكرانيا الموالي لروسيا). وهنا يدين بالطبع الغرب ومعه “الناتو” ما يعتبرانه تدخلاً روسياً سافراً في شؤون أوكرانيا، ويرفضان ضم كريميا، لكنهما يتعاملان مع الأمر الواقع بحكم ثقل روسيا. أما في الحالة السورية، فالقوى الغربية أول من تدخل، ما جعلها تفتح الطريق لتدخلات أخرى، إذ استغلت روسيا هذه الثغرة لتتدخل، هي الأخرى، في البلاد لدعم حليفها (النظام القائم) نكاية ومناكفة في القوى الغربية التي تدعم حليفها (المعارضة). بالطبع، تبرر القوى الغربية تدخلها باعتبارات أخلاقية، وهي، في واقع الحال، مجرد مسوّغ لخدمة مصالحها، فهي لا تقول بهذه الاعتبارات الأخلاقية لمّا يتعلق الأمر بفلسطين، أيْن ميعت التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه باستخدام عبارة “الطرفين” أو “الجانبين”.
لسان حال روسيا والغرب محاربة الإرهاب وتنظيم داعش تحديداً، لكن الجميع يعلم أن التدخل، مهما كانت أهدافه، سينجم عنه المزيد من عدم الاستقرار والمزيد من الإرهاب، خصوصاً أن حروب الجماعات الإرهابية صفرية. وبالتالي، التدخل الأجنبي يغذيها ويمدّها عملياً بالمزيد من المقاتلين، لأن هناك من يقاتل الآن في سورية، ليس بالضرورة حباً في داعش، وإنما كرهاً في القوى الغربية. ونظراً للمشهد المعقد للغاية في سورية، عكس ليبيا، لا يجد “الناتو” مدخلاً لأي دور له في الصراع إلى حد الآن، خصوصاً بعد التدخل الروسي الذي يجعل أي تحرك أطلسي في غاية من الحساسية، فقد تعتبره روسيا عودة علنية إلى نظام الحرب البادرة.
لا شك في أن التمدد الأطلسي على حساب روسيا ومناطق نفوذها شرقاً وصل إلى حدوده
القصوى من منظور روسيا التي قبلت على مضض توسع “الناتو” شرقاً، معتبرة أوكرانيا خطاً أحمر لا يجب تخطيه. وهذا ما يفسر رد فعلها القوي لإبقاء أوكرانيا، أو على الأقل، جزء منها تحت نفوذها. والواضح أن روسيا تسعى إلى أن تجعل كلفة انضمام أوكرانيا المحتمل إلى الاتحاد الأوروبي و”الناتو” عالية جداً: تقسيم البلاد. مشهد اتضحت ملامحه مع توحد شرق البلاد ضد غربها وضم كريميا إلى روسيا.
وسبق لروسيا أن دخلت في حرب مع جورجيا، على الرغم من تنديد القوى الغربية ودعمها الأخيرة. وهذا يذكّرنا بالتنديد الروسي بالتدخل الأميركي في العراق الذي لم يمنع الولايات المتحدة من غزوه واحتلاله. والمعادلة الإستراتيجية هنا واضحة، يعي الغرب أن التخوم المباشرة لروسيا خط أحمر، يقتضي تعاملاً حذراً، ما يجعله يلتزم سياسة ضبط النفس. أما روسيا فاعتبرت أن العراق مصدر قلق أميركي ذو أولوية قصوى. لذا، التزمت هي الأخرى ضبط النفس إزاء الغزو الأميركي.
أما حالة سورية فمختلفة بعض الشيء. أولاً، الدعم الروسي للنظام السوري يعود إلى العلاقة التحالفية التقليدية بين البلدين، وإلى انسجام مواقف النظام السوري (عكس نظام صدام حسين). ثانياً، يُفسر أيضاً بالطريقة التي تم فيها التدخل الغربي في ليبيا. فروسيا ما زالت تقول إنه لم يستند إلى شرعية أممية، وإن القوى الغربية فسرت قرار مجلس الأمن على هواها. ومن ثم، هي تسعى إلى أن تدفع القوى الغربية في سورية ثمن تدخلها في ليبيا. ثالثاً، بتدخلها في سورية، بغض النظر عن المسوغات، فتحت القوى الغربية، بل وشرعنت عملياً التدخل الروسي، على الرغم من علمها مسبقاً أن روسيا تقف إلى جانب النظام.
والمشهد الصراعي لصالح روسيا جزئياً بالنظر لطبيعة المتنافسين. فروسيا دولة واحدة وغير ديمقراطية بما فيه الكفاية، وبالتالي، فحسابات المصالح واضحة، وعملية صنع القرار غير معقدة، بينما القوى الغربية تختلف رؤاها وتصوراتها، وإن التقت مصالحها. أما “الناتو” فهو منقسم حول كيفية التعاطي مع روسيا. فحتى وإن كانت كل دوله الأعضاء تقول بضرورة الوقوف في وجهها، فإن قراءتها التهديد مختلفة، فدول أوروبا الشرقية تعتبر روسيا مصدر قلق، بغض النظر عن الأزمة الأوكرانية، أما الدول الأوروبية الأخرى الأكثر نفوذاً فهي منشغلة بها أيضاً، لدواع إستراتيجية أوسع من أن تُختزل في الأزمة الأوكرانية. أضف إلى ذلك عدم اهتمام دول “الناتو” الشمالية بما يحدث في المنطقة المتوسطية التي تعتبرها دوله الجنوبية (الأعضاء في الناتو) مصدر قلق لأمنها القومي.
من هنا، يمكن القول إن الحرب الدائرة في سورية بين القوى الغربية وروسيا هي أيضاً بمثابة عملية تصفيات حسابات إستراتيجية، تعود إلى الأزمتين، الليبية والأوكرانية، فالقوى الغربية تعاكس روسيا في سورية لتنتقم مما يحدث في أوكرانيا. أما روسيا فتنتقم من القوى الغربية لأنها تجرأت، حسب الرؤية الروسية، على المساس بأمنها القومي، بمحاولة وضع أوكرانيا تحت نفوذها. كما أن الصراع في سورية وعليها يعد أيضاً جولة ثانية، في إطار زماني ومكاني مختلف، للأزمة الليبية. والجدير بالملاحظة أن التدخل في سورية هو أول تدخل لروسيا في منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة، بينما تدخل الغرب عموماً في عدة دول (الصومال 1992، أفغانستان 2001، العراق 2003 وليبيا 2011). إحصائياً القوى الغربية هي الأكثر تدخلاً في المنطقة (فضلاً عن تدخلها في كوسوفو في 1999 – على حساب روسيا حليف صربيا). والغائب الأكبر في حسابات التدخل هذه اليمن، الذي تتدخل فيه السعودية، والذي لا تذكره لا القوى الغربية ولا “الناتو”، كما لا تذكر تدخل السعودية في البحرين.
أي إغفال لهذه المتغيرات، ولتصفية الحسابات الإستراتيجية بين القوى الغربية و”الناتو” من جهة وروسيا من جهة أخرى يجعل تحليل المشهد التدخلي في المنطقة مبتوراً. فالعداء العربي، بغض النظر عن شرعيته من عدمها، لأميركا أو لروسيا أو للقوتين معاً لا ينفع التحليل في شيء، بل يجعل العربي يأخذ رغباته على أنها حقائق. ولا نبالغ إذا قلنا إن ثقافة التنديد والشجب بلغت مستويات عالية جداً في العالم العربي، حتى أصبحت عقبة أمام الفهم العقلاني والبارد (وليس العاطفي) لوضع الأمة. العامل الحاسم ليس في قوة الآخر (الغربي أو الروسي أو كليهما)، وإنما في انكشاف العرب في زمن القابلية للتدخل. فقد أصبح التدخل مرغوباً ومطلوباً عربيا (بينياً وفي العلاقة مع الأجنبي). وكأنه كلما ابتعدت الدولة العربية عن سنوات الاستقلال فقدت رشدها السياسي! إنها دلالة قوية على انتكاسة بناء الدولة في المنطقة العربية.
عبد النور بن عنتر
صحيفة العربي الجديد